28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | الأنموذج الشِّعري وتشكُّله وتحكُّمه بالشعر العربي / جريدة الأيام الإلكترونية

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | الأنموذج الشِّعري وتشكُّله وتحكُّمه بالشعر العربي / جريدة الأيام الإلكترونية عبد المجيد زراقط :
يعرف الشعر العربي ، في مسار تطوُّره ، ظاهرة تحكُّم أنموذج شعريٍّ به ، يتحدَّث عنها بعض الباحثين، فيقول : انَّ " مقاييس أزليَّة جعلت الشعر الجاهلي أنموذجاً يتحكَّم بالإنتاج الشعري ، على مرِّالتاريخ الثقافي العربي ، الى درجة تحوَّلت فيها هذه المقاييس الى سلطة تكتسب قوَّة المعيار والقانون الخالد " ( انظر ، على سبيل المثال ، محمد عابد الجابري ، تكوين العقل العربي ، بيروت : دار الطليعة ، ١٩٨٤ ، ص. ٩٦ ) .
تبدو هذه الرؤية شاملة ، وشديدة العمومية ؛ الأمر الذي يُفقد أحكامها الدقَّة والموضوعيَّة ، اذ انَّ هذه الأحكام المطلقة العامة تشمل أربعة عشر قرناً من الانتاج الشعري الذي كثُر فيه الابداع والاتِّباع في الوقت نفسه ، مايقتضي التمييز بينهما واصدار الأحكام المبنيَّة على دراسات نقدية تزامنيَّة وتطوُّرية . ما نودُّ التحدُّث عنه ، في هذه المقالة القصيرة ، هو تفسير نشأة هذه الظاهرة وتكوُّنها ، وبيان حدود تحكُّم أنموذج الشعر الجاهلي بالشعر العربي . أمَّا حركات الخروج على هذا الأنموذج ، فالحديث عنها يطول ، وهي كثيرة ، ولم تنقطع طوال تاريخ الشعر العربي .
نحاول تفسير نشأة هذه الظاهرة من منظور مفاده أنَّ التجربة الحياتية الشعرية التاريخية : السياسية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية ...هي التي تملي النَّصَّ الشعري الذي يتخذ موقعاً في البناء المجتمعي يؤدِّي منه دوراً ، تمكِّنه من أدائه فاعليته الجمالية الدلالية .
فما هي هذه التجربة التاريخية التي أملت هذه الظاهرة ؟
في الاجابة عن هذا السؤال نقول :حدث ، في أواخر العصر الجاهلي ، تحوُّلٌ تاريخي تتحدَّث عنه كتب التاريخ، ويمكن لقول الحطيئة الاَتي الدلالة عليه : " لقد جعت حتى أكلت النَّوى المحرق ، ولقد مشيت حتى انتعلت الدم ، و حتى تمنيت أنَّ وجهي حذاء لقدمي ..." ( التكسب بالشعر لجلال خياط ، ص. ١٥). أفضى هذا التحول المتمثل بتمركز الثروة في أيدي طبقة معينة الى تكسُّب كثير من الشعراء، وغدوِّ التكسُّب ظاهرة ملموسة ، والى أن يقول الشعراء المتكسِّبون على لسان الحطيئة لمن يطلب منهم ترك التكسُّب : " اذاً يموت عيالي جوعاً ، هذا مكسبي ، ومنه معاشي " (الأغاني ، ٢/ ١٨٦) ، ثم الى أن يقول الفرزدق في عصرٍ تالٍ : " الدنيا مطلوبة ، وهي في أيدي بني أميَّة " ، والى أن يجيب عندما سُئل عن تقلُّب مواقفه بين أصحاب السلطان : " نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه ، فاذا تخلَّى عنه انقلبنا عليه " (راجع: الأغاني ، ٣ / ٣٩٣و٣٩٩ ) .
هذا القول ، كما يُلاحظ ، يربط ما يقوم به الشاعر بإرادة الله ، ويجعل منه طاعةً له .
أدَّى هذا الموقف الى مايمكن تسميته بالاحتراف الذي لم يلبث أن غدا ظاهرة سائدة ، والاحتراف الشعري هو توظيف الشاعر قوَّة عمله الشعرية في خدمة السلطان القائم : مَن كان الله معه ، من دون الصدور عن التجربة الذاتية الخاصة ، من أجل الدنيا المطلوبة، وهي في أيدي السلطان . ولعلَّ بيت جرير الاَتي يعبِّر خير تعبير عن العلاقة التي قامت بين الشاعر والسلطان، قال جرير :
سأشكر أن رَدَدْتَ عليَّ ريشي ،
وأنبتَّ القوادم في جناحي ...
فالسلطان هو الذي يكسو الشاعر / الطائر ريشه ، فيطير شاكراً / مغرِّداً في خدمة مشروعه السياسي . بغية بيان مدى توظُّف الشاعر في خدمة السلطان، نسأل : هل يمكن أن ينشط طائر من دون ريش !؟ والجواب هو : ما كان ليكون طائراً لو غدا من دون ريش ، مايعني أن السلطان يعطيه هويَّته وفاعليته ، وقد يكون الخبر الاَتي ذا دلالة بالغة على موقع الشاعر المحترف ودوره في البناء المجتمعي ، وخصوصاً في بناء أجهزة السلطان . جاء في طبقات ابن سلام : " فوفد الحجاج على عبد الملك ... ، فأهدى اليه جريراً " والسلطان ، كما هو معروف ، لم يكن الحاكم السياسي فحسب ، وانما كان يتحكَّم ، اَنذاك ، بالإنتاج وتوزيعه ، في اجراء عُرف باسم " العطاء" .
كان السلطان يريد من الشاعرأن يقود الناس اعلامياً ، فيتوجه اليهم بخطابٍ يعتمد أنموذجاً شعرياً مقبولاً ورائجاً ، بغية أن ينتشر هذا الخطاب ويؤثر . والشاعر، محترف التكسب ، ما كان يستطيع أن يبدع أنموذجاً جديداً تمليه تجربته الوجدية الذاتية الخاصة ، لأنه فقد هذه التجربة ، وارتهن الى تجربة أخرى أملت عليه أن يكون مرتَهَناً للسلطان ، من حيث الخطاب ، والى الرأي العام ، من حيث شكل الأنموذج الشعري .
فما هو هذا الشكل ؟ ولماذا تم اختياره ؟
كان السلطان ، اَنذاك ، عربياً ، وكانت اللغة العربية عاملاً أساساً في بسط سلطانه ، ويروى أن الخليفة عبد الملك بن مروان قال لمَّا لاحظ أن ابنه الوليد " يلحن " : " لا ينبغي أن يلي أمر العرب الاَّ من يتكلم بكلامها " (تاريخ النحو لسعيد الأفغاني ، ص. ١٥ )، فعمل الوليد على تقويم لسانه .
أهمية اجادة اللغة العربية واتقانها ، في ذلك العصر ، فرضت اهتماماً كبيراً بالشعر الجاهلي ، فقد كان بمنزلة المعجم اللغوي ، في تلك المرحلة ، وكان هذا سبباً من الأسباب التي أدت الى احيائه وسيطرته ، ولم يكن هذا السبب الوحيد ، في حدوث هذا الأمر ، فقد كانت هناك أسباب أخرى لا تقلُّ أهمية عنه ، منها :
١.استخدام العلماء الشعر الجاهلي في فهم النص القرآني وتفسيره ، وبيان اعجازه .
٢.استخدام هذا الشعر في التأديب ، التربية والتعليم بلغة أيامنا ، فقد اختار المؤدِّبون نصوصاً من هذا الشعر ، واستخدموها في تأديب النشء ، وهذا هو السبب الذي جعل هذه المختارات متلائمة مع منظومة القيم العربية الاسلامية ، لأن اختيارها تم من منظور هذه القيم ، ولعلَّ طه حسين لم يلحظ هذه المسألة عندما رأى أنَّ ما وصلنا من الشعر الجاهلي يمثل منظومة القيم الاسلامية ، ولهذا كانت هذه الخصيصة أحد أسباب شكِّه بالشعر الجاهلي .
٣. استخدام هذا الشعر في تأسيس العلوم العربية : نحو وصرف ، وضع معاجم ، بلاغة ، نقد أدبي ، عروض ... ، فقد حرص العلماء على العودة الى نماذج من هذا الشعر لوضع هذه العلوم .
أدت هذه العوامل الى رواج الشعر الجاهلي ، ولما كانت تجربة الشاعر محترف التكسب تتمثل في البحث عن أنموذج شعري رائج يصبُّ فيه معاني محدَّدة سلفاً ، ولما كان السلطان يريد لخطابه أن ينتشر ويؤثر ، كان اختيار أنموذج الشعر الجاهلي قالباً يتضمن خطاب المديح السياسي .
وقد أدَّى هذا الى تكوين أنموذج تبنَّاه معظم نقاد ذلك العصر ، بوصفه أنموذجا للشعر الجيد ، فيفضل يونس الأخطل روايةً عن علماء " ماشوا الكلام وطرَّقوه " ، لأنه " كان أكثرهم عدد طوال جياد ، ليس فيها سقط ولا فحش ، وأشدّهم تهذيباً لشعره " ، فمن يملك الحكم بالجودة هم العلماء الذين " ماشوا الكلام وطرَّقوه " ، أي العلماء الذين وضعوا العلوم العربيَّة . لم يكن هذا النوع من الشعر نسخةً عن الشعر الجاهلي، وانما كان مختلفاً عنه تمام الاختلاف ، وقد يكون الحطيئة أوَّل من أدرك هذا الاختلاف ، وحدَّد الفرق بين الشعرين ، وعبَّر عنه بلغة مكثفة ، فقال لدى المقارنة بين الشاعر الجاهلي والشاعر المتكسب : " ولكن الضراعة أفسدته – يقصد الشاعر المتكسب – كما أفسدت جرولاً- يعني نفسه - ، والله لولا الطمع لكنت أشعر الماضين ، أما الباقون فلا شك في أنِّي أشعرهم " . يميِّز الحطيئة بين ماضين وباقين ، ويرى أنَّ الطمع يمنعه من الوصول الى مرتبة الماضين: وهم الجاهليون ، أما الباقون : المتكسبون فهو أشعرهم . كان شاعر المديح يحتذي شكل الأنموذج الجاهلي ،ويضمِّنه خطاب السلطان ، فيتشكل أنموذج شعري جديد محوره الممدوح ، تصبُّ جميع سواقيه في هذا المحور ، ما يتيح لنا القول : ان الوحدة في هذا الانموذج الشعري هي وحدة تكاملية تتمثل في تعاضد جميع مكونات القصيدة لتؤدي غرض المدحية الأساس ، وهو شخصية الممدوح ومشروعه السياسي .وشَبَه هذا الشعر بالشعر الجاهلي يقتصر على اتِّباع بعض حركات القصيدة ، واتِّباع نسق نَظْمي يتمثل في عدد المقاطع ونظام توزيعها، مايعني أن الشاعر محترف المديح كان يختار من أنموذج الشعر الجاهلي ما يوائم تجربته . وكان شعراء المديح يجوِّدون شعرهم . قال الأخطل لعبد الملك : " أقمت في مدحتك : " خفَّ القطين " سنة ، فما بلغت ما أردت " ، وكان السلطان يصدر حكمه ، فيقول عبد الملك للأخطل :" أتريد أن أكتب للآفاق أنك أشعر العرب " . و مما يشير الى دور السلطان ، في اختيار الشاعر المحترف ذلك القالب خضوع أبي نواس ، الخارج على كل محظور، لإرادة السلطان في هذا الشأن ، فنقرأ له :
أعِر شعرك الأطلال والمنزل القفرا،
فقد طالما أزرى به نعتُك الخمرا ،
دعاني الى نعت الطلول مُسلَّطٌ ،
تضيق ذراعي أن أردَّ له أمرا ...
الى المرتبة التي صار اليها الأخطل ، كان يسعى محترف المديح ، ومن لم يمدح ويهجو من الشعراء ، لم يكن يعدُّ شاعراً ، فيقول أبو الفرج الأصفهاني ، على سبيل المثال : " فحريث بن عنَّباب اسلامي ، من شعراء الدولة الأموية ، ليس بمذكور في الشعراء ، لأنه كان بدوياً مقلَّاً ، غير متصدٍّ للناس في مدحٍ ولا هجاء ، ولا يعدو في الشعر أمر ما يخصُّه " ( الأغاني ، ١٤ /٣٨٢ ). والسؤال المطروح هنا : كم من شاعر لم يعد في الشعر أمر ما يخصه ، ولم يُعدّ من منظور أولئك النقاد من الشعراء !؟ عن هؤلاء الشعراء الذين لم يُعدُّوا شعراء ينبغي للباحثين في التراث الشعري العربي أن يبحثوا.
انَّ شعر مديح محترفي مديح السلطان كان خطاب هذا السلطان المُتضمَّن في شكل شعري رائج ، وهو شعر الدولة الرسمي الذي شاع وانتشر وتمَّ تداوله ، في حين قلَّ الاهتمام قديماً بالشعر الاَخر المختلف ، والمأمول أن يزداد الاهتمام بهذا الشعر ، فيتمُّ البحث عنه وتحقيقه ونشره وتداوله . والمهمّةَ الأساس تتمثل في أن يقرأ الناقد الانتاج الشعري : السائد منه والمقصيّ ، المؤتلف والمختلف ، ويدرسه ، ويميِّزه ، ثم يصدر أحكامه المبنيَّة على استقراء وافٍ ، ان لم يكن من الممكن أن يكون الاستقراء كاملاً .
* أكاديمي- ناقد أدبي - قاص وروائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية