28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

البسطة التحتا، سوق يزخر بمفروشات لها عبق التاريخ/جريدة الأيام الإلكترونية

البسطة التحتا، سوق يزخر بمفروشات لها عبق التاريخ/جريدة الأيام الإلكترونية الحياة أذواق. بعضهم من يهوى من المفروشات قديمها المجلل بعبق التاريخ ولمساته التي تتكلم عن ذاتها. وبعضهم الآخر يتآلف مزاجه مع كل معاصر، فيذهب نحو مفروشات الزمن الذي يعيشه، بألوانه الزاهية، ولمساته المبتكرة البسيطة والأنيقة في آن. سوق المفروشات العتيقة في البسطة التحتا في بيروت، من الأسواق المعروفة والمقصودة منذ عقود، ليس من اللبنانيين وحسب، بل من كل عليم بقيمة تلك المصنوعات التي بدأت تنفد. سوق بدأ ينمو ويتسع في عدد متاجره، والمفروشات التي يعرضها مع سنوات الاستقلال الأولى، ومع بداية نزوح أبناء الجنوب نحو العاصمة. ويقدر العارفون بهذا السوق عدد متاجره بالستين.
ليس من تاريخ للمكان الذي تتجاور فيه المحال واحداً تلو الآخر. وفي تلك المساحة المحدودة ليس لمتجر يعرض غير المفروشات وجود. فقط بعض متاجر السمانة تشغل أطراف السوق لتلبي حاجات سكانه. مختار البسطة مصباح عيدو يخبرنا بما بلغه عبر والده المختار الراحل عدنان عيدو، ومفاده أن سوق المفروشات العتيقة في البسطة بدأ ينمو بالتدريج مع نهايات الخمسينيات. وبلغ أوج ازدهاره قبل اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975. بحسب عيدو فسكان قرى الجنوب كانوا يشجعون بعضهم بعضا لإمتهان تلك التجارة. وكلما خلا متجر كان مواطن جنوبي يشغله، وغالباً من بلدة ميس الجبل. صدفة يزور المختار محمد المبسوط زميله عيدو. يؤكد ما سبق ذكره. ويحدد العائلات التي تعمل في تلك التجارة بقبلان أولاً، ثم دخلتها عائلة حجازي وعمّار، والعائلات الأخرى محدودة. حالياً تعددت العائلات العاملة بتلك التجارة. وبعضهم يتسلح بالدراسة الجامعية لهندسة الديكور. يروي المختار مبسوط أن افراداً من عائلات معروفة في بيروت كانت تتعرف إلى اجدادها في سوق البسطة. فثمة دور فسيحة وقصور معروفة باع الأحفاد محتوياتها من المفروشات الثمينة، ذات الصناعة اليدوية التي أصبحت نادرة في عصرنا. بيعت المحتويات مع صور أصحابها، ليس لأهمية الراحلين بنظر الشاري، بل لأهمية الإطار الذي كان يحتضن صورهم ذات يوم. كل من تمر بهم في سوق البسطة التحتا سائلاً عن الحال ينبئك «السوق واقف». لماذا انتم مستمرون؟ «لا عمل آخر نقوم به». بعض من التجار يحاول تنسم الخير مع قدوم المغتربين، والعدد المحدود من السائحين العرب. «ربما لهم قدرة تحريك السوق نظراً لقدراتهم المالية». عصام شقير من ميس الجبل يقع متجره ضمن مربع متاجر متلاصقة لها أربعة أبواب. تُقفل وتفتح في مواعيد محددة ولا يضطر أصحابها لتجميع معروضاتهم داخل محالهم. بل تبقى منتشرة أمامها. شقير انتقل من العمل بالمفروشات القديمة المستعملة، وبدأ العمل بالمستورد القديم الشكل والحديث الصناعة. يقول: ثمة اقبال إنما محدود على هذه المفروشات. أما القديم المستعمل فسوقه محدود. عصام رافق والده في مراهقته وأحب المصلحة «كانت حلوة. وكان لوالدي خمسة محلات ورثتها مع اخوتي، وحدي عملت في المصلحة، كانت تؤمن لنا حياة هانئة ومريحة. السبعينيات شكلت عصراً ذهبياً للأنتيكا. الكثير من البضاعة كانت ترد من سوريا، وكذلك مصر وإيران. لم تكن الجمارك تعرف قيمة تلك المستوردات. بعد فقدان القديم من البضاعة صرت أعمل بالجديد المستورد من مصر، وبدوره هذا السوق يشهد مضاربة كبيرة». يقر العاملون في سوق الأنتيكا في بيروت باستيرادهم للمفروشات المستوحاة من التصاميم القديمة من اندونيسيا، ماليزيا ومصر. لكن الضرائب مرتفعة على المستورد وتبلغ 30 في المئة. نسرين حسن صاحبة محل فيكتوريا تحدد مصدر معروضاتها: نحن مختصون بالأنتيك الإنكليزي تحديداً. نسرين التي حلّت مكان والدها بعد رحيله تفصح عن حبها لمهنتها. وتعترف بأن العمل علمها الكثير. وهي تسأل نفسها كيف كانت تكره هذا النوع من المفروشات في ماضي الأيام؟ رغم رحيل والدها لا يزال متجر نسرين يستقبل جميع زبائنه القدامى. وهي تؤكد أن من يتزين منزله بالأنتيكا الإنكليزية يستحيل أن يُدخل إليه مفروشات أخرى حتى لو قُدِمت له مجاناً. الأنتيك الإنكليزي لطيف ودافئ. أسعاره مرتفعة، ومن يقدره لن يستغليه. فالخشب الإنكليزي لا يُعلى عليه، بحسب نسرين. وما يصل إلى لبنان من هذه المفروشات ينتمي إلى الماركات العالمية المعروفة في أوروبا منذ مئات السنين. وتشير نسرين إلى مكتب كانت تُخط عليه الرسائل قديماً «ديفين بوت»، وتؤكد أن عمره لا يقل عن 200 سنة.
ُيعرِّف علي علّول بضاعته بالكماليات. «بدأت التركيز عليها بعد أن تراجع سوق الخشب الأنتيك. فالخشب المصري، الماليزي والأندونيسي ضرب السوق. كذلك دخل السوق تجار من خارج لبنان». في متجره مجموعة كبيرة من الكماليات من نوع الأوبالين، تحمل رسوماً جميلة شغل اليد. لكن العارفين بقيمة هذه القطع «راحو» ولم يورثوا أبناءهم الفهم والذوق. يضيف: «أعرف بعض أبناء العائلات العريقة يعيشون في فرنسا ويطلبون من ذويهم بيع مقتنيات منازلهم مرددين: أو نحن سنرميها لاحقاً. فهي لا تعني لنا شيئاً». في الواقع هذه المنازل تضم قطعاً لا يمكن تقديرها بثمن لقيمتها العالية. نسأل عن زبائن أيام زمان؟ فيقول: «لا زبائن من قديم الزمان، جميعهم رحلوا من هذه الحياة. ولن أفصح عن اسمائهم فهي ضمن أسرار المهنة. لكنهم من بيوتات لبنانية عريقة، ومن المنظورين اجتماعياً. جميع الزبائن القدامى الذين نعرفهم لا يفرطون مطلقاً بأي من مقتنياتهم من الأنتيكا». وفي متجر علّول «بيرو» خشبي سوري المصدر يفوق عمره الـ100 سنة، مشغول كما الفسيفساء، يصنفه من القطع الثمينة. تغير السوق بحسب خبرة علّول منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومع بدء الحرب السورية تغيرت المعادلة بنسبة 180 درجة.
أحمد سعد كان طفلاً عندما كان يرافق والده إلى متجره في البسطة التحتا. هو الآن مغرم بعمله. ويتفنن بالتعامل مع تجارته رغم محدودية السوق. يقول: «يستحيل أن يعيش أحد في أجواء الأنتيكا ولا يحبها. وغريب جداً ألا يتابع ابن تاجر الأنتيكا عمل والده. مصلحة تقود للإدمان والشغف. والناجح في هذه المهنة لا يفكر فقط بها كتجارة ومصدر للعيش. فمن الضروري أن نحب القطعة التي نشتريها. وأن نتعامل معها أكثر من كونها مصدراً للربح، فهو تحصيل حاصل». اذاً يتعامل أحمد سعد مع مقتنيات متجره كما يتعامل مع التاريخ. ويضيف إليه الفن والذوق. وكل عامل في هذه المهنة لديه مقتنياته التي تعبر عن مفهومه لمهنته. ويعرِّف»الأنتيكيه» الناجح: «هو الهاوي والتاجر. التاجر وحده لا ينفع في هذه المهنة.» في محتويات متجره قطعة خشبية كانت لها رحلتها من الشام إلى باريس وعادت لتستقر في شارع البسطة التحتا في بيروت. في رأي سعد أن الأوروبيين «المختصين والذواقة يقدرون عالياً القطع الشرقية والتراث الفني الإسلامي، ويرون فيها قيمة فنية عالية جداً». وبحسب خبرته في المصلحة وسفره الدائم إلى أوروبا، يتفوق الأوروبيون على الشرقيين بتقليد تراثنا في صناعة الخشبيات. ميزتهم التقنية والدقة الأوروبية. الشرقيون يصنعون مع بعض الأخطاء. الأوروبيون يصرّون على التفاصيل، وصولاً إلى الكمال. الحال عينه يعيشه المهندس والتاجر حسان اوطباشي. «بدأت المهنة مع والدي في بداية الخمسينيات. أحببت المهنة وكبرت معها، وإلى جانب والدي. تابعت دروسي المدرسية، ومن ثم تخصصي الجامعي، فاخترت هندسة الديكور، وهدفي تطوير المصلحة. لدينا مصنع ينفذ كل المطلوب من المفروشات والديكور الخشبي، ونستوحي من الشرقي القديم أو نقلده». مقتنيات متجره مصدرها لبنان، سوريا وتركيا. وبحكم عمله الطويل في هذه المهنة تعامل مع قطع خشبية أثرية جداً يعود عمر بعضها لما قبل 300 سنة. وسوريا هي مصدر تلك المصنوعات النادرة في عصرنا. قبل أكثر من 30 سنة شهدت سوريا حركة بيع نشطة للمفروشات الشرقية الثراثية. وفي ما بعد منعت الدولة السورية بيع تلك المنازل القديمة ومفروشاتها، وسمحت باستثمارها فقط كمطعم أو فندق صغير. يزيد عن قرن من العمر. نسأل عن الزبائن المحترفين في شراء الأنتيك والمعروفين من قبل أوطباشي، فهذا ما يعصى على الإحصاء، ومنهم العارف بما يريده من القطع الشرقية النادرة. وفي سبر لنفسية زبائن الأنتيكا يرى اوطباشي «الفهمان لا يعذب. الأثرياء الجدد مقلدين ومتعبين بطلباتهم. المتحدرون من بيوتات تقدر المصنوعات الشرقية يعرفون ما يريدونه. لكن السوق حالياً يستند على ما يطلبه الأثرياء الجدد». في حركة القطع الشرقية المتداولة في السوق يقول أوطباشي أن الحرب اللبنانية الطويلة تسببت ببيع كثيف لهذه المفروشات إلى الخارج. ومنذ ذلك الحين والسوق يعاني فقراً في القطع المتداولة. هناك تقليد في الصناعة، انما القطعة القديمة تتميز بالروح. ولأن سوق القطع الشرقية القديمة يدور حول نفسه، فثمة مبيعات من قبل أوطباشي نفسه تعود أدراجها إليه من جديد. فالابناء يبيعون ما اشتراه الآباء.
زهرة مرعي.
المصدر :القدس العربي