28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

أمل ناصر ناصر، الأسلوبية في قصيدة الكمال كفاءة النقصان لمحمود درويش

أمل ناصر ناصر، الأسلوبية في قصيدة الكمال كفاءة النقصان لمحمود درويش تقدم لنا قصيدة الكمال كفاءة النقصان، للراحل محمود درويش رؤية بعيدة حملها بمضامين تعبيرية جمعت بين الشكل اللغوي في الأسلوب وذاك التعبير الوجداني الذي تفيض به أسطر القصيدة لتخرج لنا تعابير عدة توضح رؤية الكاتب للحياة في أسلوب شاعري جمع بين التأمل الفلسفي وفكرة الوجود والشعر والشعور، إضافة إلى منح القارئ القدرة على استخلاص حياة الشاعر او بالأحرى استخلاص الخط الأفقي لحياة الشاعر وانغماسه في مجتمعه، وهكذا بين أسلوبية التعبير التي تدمج البنية الشكلية ودلالاتها مع وجدان الشاعر وإحساسة، وبين أسلوبية الفرد المناطة وحدها بلغة الشاعر الفريدة وطبيعة سير حياته الاجتماعية نجد أنفسنا أمام حالة شعرية خلاقة تعكسها تجربة فريدة لشاعر عاش الحياة بكل غمارها.
في أسلوبية التعبير:
إذا ما أردنا أن نعرف ما الذي يريده الشاعر من هذا التعبير فيتجلى أمامنا أن القصيدة بداية قائمة على الحوار بين ذات الشاعر والوقت والموت. هذا الوقت الذي يمثل الإطار الزمني للحياة. إذن جعل الشاعر الحياة والموت كائنين حيين ينطقان، وهذا ما يمنحهما صفة الانسانية. وأما الحوار بين طرف الشاعر من جهة وطرف الحياة والموت من جهة أخرى، فهو تجاوز ايضاً للصفات الانسانية العادية واستنهاض لأفكار لا ترواد أشخاصاً عاديين، بل تأتي لذوي الحكمة والعقلانية، وهكذا يعطينا الحوار دلالة التساوي بين أطرافه. فإذا ما أراد الشاعر أن يفهم كنه الموت والحياة عليه أن يتجاوز الصفات الإنسانية العادية ليصبح ربما فيلسوفا وإذا ما أراد أن يخلع عن الموت والحياة صفة الإنسانية المتمثلة بالنطق عليه أن يزيل عنهما الصفة الغيبية ويخضعهما لحضور مرتبط بقلمه ورؤيته وفكرته وهذا ما جعل هذه القصيده تأخذ تعابيرها الجدية والمؤثرة.
تبدأ القصيدة بجملة اسمية، الوقت طار، وقدم الوقت للأهمية وإعطائه الصدارة في موضوعه، واستخدم كلمة طار وليس ذهب، وهذا مؤشر للسرعة وعدم التكمن من اللحاق به، فيطلب الوقت من الشاعر التوقف ثم تبدأ أسطر القصيدة بالتتالي في إجابة من الشاعر عن مطلب الوقت، ليوضح له في جمل فعلية تحمل معنى النفي والقلب ربما عن أهداف أرادها كي تتحقق وجعل من هذه الأهداف ذريعة لعدم التوقف
لم أشرب دوائي كله
لم أكتب السطر الأخير من القصيدة
لم أسدد إي دين للحياة
ينتقل من حال ابداء تعارضه من الوقت إلى حالٍ آخر يوضح فيها ما قدمته له الحياة وهو في قمة العوز والحاجة فأعطته تيناً وألبسته غيماً وأسكنته النجوم، وقد تقصد الشاعر هنا أن لا يذكر الحاجات المادية في الحياة أو الحاجات التي تنتفي بمجرد اقتنائها ولكنه استخدم رموزاً في إشارة منه أن في هذه الحياة كثيرة هي الأشياء التي إذا ما تبصرنا بها وعرفنا حقائقها وأزلنا الحجب عنها لفهمنا الحياة فهماً مختلفاً.
وبعدها يدخل الموت على خط الحوار ليوازي بينه وبين الحياة. إن إسناد فعل القول للحياة والموت إنما المراد منه إعطاء الأهمية لهما وأهمية فهمها معا وكيف أن كل ما يجول في حياة الإنسان يتمحور حول حضور الحياة والموت.
إذن قدم لنا الحوار في هذه القصيدة حضور الحياة والموت بشكل أساس، وكذلك حضور الشاعر، الذي يحاورهما حوار المناضل الذي يريد إثبات نفسه أمام قدرتهما. وهذا ما عبر عنه الشاعر بأسلوب حواري أسند فيه فعل القول إلى أطراف الحوار الثلاثة الشاعر الذي يمثل الإنسان والحياة والموت اللذان يمثلان القدر الذي يتحكم بالانسان. وقدم هذا الأسلوب في التعبير عن مواقف وجدانية للشاعر اتجاه الحياة والموت عندما قال:" تعلمني تجدني في انتظارك" قاصداً هنا الحياة
وعندما رد مجيباً الموت:" أمكما سؤال غامض لا شأن لي فيه." هذا التعبير الوجداني المرتبط مباشرة بالأسلوب خلق حالة وصفية للحياة والموت منطلقة من النظرة التأملية الفلسفية والوجودية للشاعر. وقد تداخل أسلوب الخبر مع الإنشاء الطلبي. الإنشاء الطلبي جاء اولاً عن طريق الوقت الذي يمثل الحياة عندما يطلب من الشاعر أن يتوقف في إشارة أن الوقت غافلة وطار ليواجه برفض من الشاعر وتبرير أن لديه كثير من الأمور للقيام بها متبعا الجمل الفعلية التي تخلق حال التواتر والاستمرارية عاكسة إصرار الشاعر على المضي قدماً. وأما الإسلوب الإنشائي الطلبي الثاني فهو عن طريق الموت حين يقول له لا تنسني فأنا أخوها في إشارة تحذيرية من الموت الى قوة حضوره. أسلوبية الفرد.
وأما اسلوبية الفرد فإننا سنحاول التعرف إليها من خلال تبيان ذات الشاعر وما يعتريها وما يخالجها وكيف علاقة هذا الشاعر بمحيطه الذي يساهم بشكل مباشر بإخراج هذه القصيدة الى العلن.
تظهر ذاتية الشاعر في القصيدة متمثلة بضمير المتكلم أنا الذي يبرز من خلال تاء الضمير سواء في الحوار الذي دار في بداية القصيدة بين الشاعر والوقت والموت، ومن خلال القسم الأخير من القصيدة الذي يخرج من دائرة الحوار إلى التعبير غير المباشر عن رؤية الشاعر الخاصة حول الحياة، حينما قال هتفت في إشارة الى أنه وجد اللغز وعرف سر الحياة ثم ألحقها بأوصاف للحياة نتيجة رؤيته الذاتية، فإنها قاسية ناعمة سيدة وجارية لا وقت لديها للبكاء أي أنها متسلطة تدفن موتاها وترقص كغانية وتنقص ثم تكتمل من نقصانها أي أنها تتزود من ذاتها تأكل نفسها بنفسها لتحيا. ثم يثبِّت رؤيته ليعبر عن نظرته للحياة وكيف تعامل معها وأنه لم يفكر يوماً في حل لغزها وبقى منتظراً كي يسأل عن ماهيتها وأجلَ السؤال للغد لكنه لم يجد وقتاً لأن الوقت راوغه وغافله وطار. وعاش الحياة يوما بيوم ولحظة بلحظة.
توضح لنا أسلوبية الفرد علاقة الشاعر بالحياة وبمحيطه أيضاً أما من خلال علاقته بالحياة فهو الذي فهم جيداً أنها تمضي دون أن تسال وتدفن موتاها مبتسمة راقصة فقرر ألَّا يسأل عنها ويحياها كما هو يريد وكما يطلب لأنه إذا ما شغل تفكيره بفك لغزها وأسرارها ستلتهمه وقوداً لها ولن يجد جواباً، إذن الشاعر هنا فرد غارق في الحكمة والخبرة الحياتية. أما علاقته بمجتمعه فيبدو أن هذا الشاعر اختار الوحدة والعزلة، وهذه العزلة هي التي أوصلته إلى سبر أغوار الحياة ومعرفة التعامل معها كي يهزمها، وأنه لم يختر شيخاً حكيماً يحاوره لكنه اختار أموراً غيبية للحوار كالموت والحياة، وجعلهما ينطقان ويتكلمان.
حمّلت القصيدة بتعابير ومضامين تجلت من خلالها رؤية الشاعر الخاصة للحياة والموت فيها من التأمل والفلسفة والحكمة مصاغة بأسلوب دمج بين البنية والشكل فعبر بصور وصفية وبجمل فعلية وحوارية عن رؤيته الخاصة محمِّلاً المعاني تأويلات بعيدة تعمق براعة الاختيار لديه. فجاء نص القصيدة غنياً من حيث الاسلوب والتعبير ومن حيث الوجدان والرؤية، وحمل بعداً فلسفيا قلما نجده في قصائد من هذا النوع، وهذا الأمر أدى إلى حضور فردية الشاعر برؤية خاصة وحضور الحياة والموت برؤية عامة.
أمل ناصر ناصر.
الأيام-الصفحة الثقافية