28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

عبد المجيد زراقط : تجلِّيات ثقافة الخوف شعراً - مديح المحترفين السياسي( 3)/جريدة الأيام الإلكترونية

عبد المجيد زراقط : تجلِّيات ثقافة الخوف شعراً - مديح المحترفين السياسي( 3)/جريدة الأيام الإلكترونية عبد المجيد زراقط :*
نحاول ، في مايأتي ، بعد أن تحدثنا ، في المقالتين السابقتين ، عن الموضوع والعصر ، وفاعلية الشعر ، وحاجة السلطان اليه ، وعن العلاقة بين السلطان والشاعر ، أن نتبين تجليات ذلك في النصوص الشعرية .
لايخفى أنَّ الرغبة ، في القرب من السلطان ، شكل من أشكال الخوف من فقد جوائزه والموقع الاجتماعي ، والمكانة الأثيرة لديه. والاحتراف هنا يعني توظيف الشاعر قدراته الشعرية في خدمة السلطان القائم : "من كان الله معه"، من دون أي اهتمام بمبدأ، ومن دون أن يكون للشاعر، محترف المديح ، موقف خاص، وخوفاً من فقد الدنيا المطلوبة : وجوداً وحرية ورزقاً وكرامة ومكانة... وثروة...
وكان الشعراء يعون وضعهم وطبيعة العلاقة التي تقوم بينهم وبين السلطان، فنقرأ لجرير قوله:
-...سأشكر أن رددت علي ريشي / وأنبتَّ القوادم في جناحي .
الاحتراف، هنا، يعني أن يقوم السلطان بـ ردّ ريش الطائر / الشاعر، وإنبات القوادم في جناحه ، ب" العطاء " والجوائز والمكانة .
والاستعارة : رد ريش الطائر ، هنا ، تعني أن الطائر هو الشاعر، وهل من طائر من دون ريش !؟ وإذ يفعل السلطان ذلك، يطير الطائر- الشاعر، مغرداً بالشكر، وبهذا يفقد الشاعر تجربته الشخصية ، وَجْد ذاته، ويرتهن للسلطان، فيفقد قدرته على إبداع شكل جديد للقصيدة، ويستعير الشكل الرائج، وهو شكل القصيدة الجاهلية ليصبَّ فيه معاني المديح، لأنَّ هذا الشكل يضمن لشعره ما يريد منه، وهو الذيوع والانتشار والتأثير في الرأي العام والاسهام في تشكيله، لأنَّ أصحاب هذا الرأي كانوا يقبلون على هذا الشعر لأسباب كثيرة، منها: كان تراثهم الوحيد الذي استُخدم في تأسيس العلوم الشَّرعيَّة وعلوم العربية والتَّأديب : التربية والتعليم. وهكذا أفلت الأمر من يد الشاعر المحترف، فصار مرتهناً للسلطان من حيث المعاني، وللرأي العام من حيث الشكل الشعري.
إنَّ فقد التجربة الشخصية الفردية، والمقصود بها "الوجد" المشكِّل للغة الشعرية ، جعل تجربة الشاعر نوعاً من البحث عن شكل يصبُّ فيه الشاعر معاني المديح، وهذا ما يمكن أن نفهمه من الشهادتين الآتيتين: يقول الفرزدق في وصف شعر عمر بن أبي ربيعة:
"هذا، والله الذي أرادته - أو طلبته - الشعراء فأخطأته وبكت الديار"، ويقول جرير في وصف الشعر نفسه: "إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه، وأصابه هذا القرشي".
إن تجربة الشاعر المحترف ، كما تفيد هاتان الشهادتان، تتمثل في أن يريد الشاعر شكلاً شعرياً/ أو يطلبه أو يدور عليه/ أو يبحث عنه، على اختلاف التعابير. وهذه التجربة ذهنية إرادية، تبيَّن الشاعران أنهما عندما مَضَيا فيها، أخطآ درب الشعر/ وأصابه القرشي ، أي عمر بن ادأبي ربيعة ، الذي صدر عن تجربته الشخصية، فأبدع شكلاً جديداً من أشكال القصيدة العربية. وقد أملت هذه التجربة الحياتية الشعرية بنية شعرية نتحدث عنها ، في مايأتي .
وحدة تكاملية محورها الممدوح
كان الشاعر المحترف يجوِّد شعره، يجوّد المقدِّمات/ ويجوّد كثيراً من أشياء حياته. يقول جرير متحدثاً عن "انجازات" والي العراق خالد القسري:
لقد كان في أنهار دجلة نعمة / وخطـوة جـدٍّ للخليفة صاعد /
جرت لك أنهار بيمن وأسعد / إلى جنة في صحصحان الأجالد /
ينبتن أعنابـاً ونخلاً مباركاً / وأنقاء بـرٍّ في جرون الحصائد
غير أنه يكتفي بهذا، ولا يكمل وصفه لهذه الأنهار والجنات الممتلئة خضرة وحباً، بل يمر بها هذا المرور العابر، وينتقل الى المديح . وهذه ميزة من مزايا شعر المديح العربي تتكرر فيه، ويمكن القول:
إن هذا الوصف كان وسيلة لإعظام شأن الممدوح، فكان الشاعر يكتفي بما يخدم غرضه ويساعد على تأديته ، من دون أن يهتم بالتفصيلات التي لم تكن غايته وهدفه.
ضمن هذا الإطار كان الشاعر يمر مروراً عابراً بكثير من الأمور التي نراها نحن أساسية. إنها طبيعة الشعر هذا، فهو تعبير عن موقف السلطان، القاضي بأنَّ جميع الأجزاء يجب أن تستخدم، بشكل متكامل، لخدمة هذا الموقف. وهذا لا ينفي أن يكون للبيت معناه الخاص المستقل، كما انه لا ينفي تشكل هذا البيت مع الأبيات الأخرى ليكوِّن القصيدة ذات الوحدة
وهكذا تحكمت بنية قصيدة المديح، وصارت قالباً شعرياً يحتذيه الشعراء ، ووضع النقاد ، انطلاقاً من هذا الواقع الشعري مقاييسهم الشعرية
* الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي - ناقد أدبي - قاص وروائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت