28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط كل اثنين.. "سامي الكاتب" / جريدة الأيام الإلكترونية

مع عبد المجيد زراقط كل اثنين.. "سامي الكاتب" / جريدة الأيام الإلكترونية الأستاذ الدكتور عبد المجيد زراقط :
كثيرون سألوني : أين نبيل عامل ؟ كنت أُجيب كلَّ من يسألني عنه : لاأعرف . أكتب ماتعرفه عنه ، وارسله اليَّ ، نريد أن ننفِّذ وصيته ، وننشر روايته . هل مات ؟ يأتي السؤال لدى سماع كلمة الوصيَّة ، فأجيب : لاسمح الله . توقَّع هو كثرة السائلين عنه ، قبل أن يغادر مكتبي ، في ذلك اليوم الذي عاد فيه ، بعد غيابٍ عن عمله ، طال أسبوعاً كاملاً ، من دون أن يتصل ، ليعتذر ، ويخبرني بسبب غيابه .
أعود ، الاَن ، وأنا ، أتلقَّى المكالمات الهاتفية الكثيرة ، وأعدُّ الرواية للنشر ، الى ذلك اليوم الذي رأيته فيه لاَخر مرَّة .
لم يُطرق باب مكتبي الحديديِّ ، اَنذاك ، دُفع بقوَّة ، وفُتِح . وقفت . مددت يدي الى الدُّرج ، أمسكت مسدَّسي . دخل . أوه ... ، نبيل يدخل بخطىً واسعة . أسرعت أحضنه ، وأنا أسأل : أين كنت ؟ أين قل لي ؟ لمَ غبت عنِّي هذه المدَّة ؟ لماذا لم تتصل ؟ ماأخبارك ؟ لم يجب . تأمَّلته ، وهو يفلت من بين ذراعيَّ : وجه مصفرُّ نحيلٌ شاحب ، عدت أسأل : مابك ؟ هل كنت مريضاً ؟ أخرج من تحت قميصه الزيتونيِّ المُسدل فوق بنطاله البنِّيِّ دفتراً صغيراً . وضعه أمام عينيَّ ، وقال : تجد ، في هذا الدفتر ، اجاباتٍ عن أسئلتك . المهم ، الاَن ، أريد مبلغاً من المال . لاتسأل لماذا ، لأني لن أقول لك . هذا تنازلٌ عن الشقة لك . تسدِّد أنت الأقساط . " أرقش " لايعتدي عليك . له مصالح معك . لايصادرها ان عرف أنها صارت ملكك . مطبعتك في خدمته ، مطبوعاته كثيرة ، وأنت لاتأخذ منه مالاً . اضافة الى أنَّه يريد اصدار نشرة جديدة ... .
وضع الدفتر ومغلَّفاً أبيض صغيراً على الطاولة ، ومدَّ يده ، وقال : مايتوافر لديك من مال . فتحت الدرج من جديد . نحَّيت المسدس جانباً ، والتقطت المغلَّف الذي يحتوي على مالديَّ ، في دار النشر ، من مال ، وأعطيته ايَّاه ، وقلت له : لايغلى عليك شيء ، ولكن هذا هو الموجود الاَن . أخذ المغلَّف ، وقال : شكراً . قلت : اجلس ، واحك لي . أقلقني غيابك ، وهاأنت تزيدني قلقاً . قال ، وهو يشير الى الدفتر : كتبت ، في هذا الدفتر ، فصولاً من حكايتي ، وكتبت زوجتي كذلك ... . كثيرون سيسألونك عن نبيل عامل . أضف مايكتبونه الى مافي هذا الدفتر من كتابات . واصنع رواية من ذلك كلِّه . انشرها عندما ترى ذلك مناسباً . اطلب من كلٍّ منهم أن يكتب مايعرفه . سمِّها " المَصْيدة " . قلت : هل تذكر ؟ كنَّا نقول : الحياة مصيدة ، والناس صيَّادون ومصطادون ، ولكلٍّ شباكه . ماهي شباكك ، الاَن ، ياصديقي ؟ قال : فلتكن هذه الرواية شباكي ، فدائماً أنا لم أملك سوى قلمي ... . وخرج ... .
ليس نبيل عامل الذي أعرفه . ذبُل ، وازداد نحولاً واسمراراً ، لكنه لم يفقد يقظة عينيه وحدَّة نظراتهما ، ونبرة صوته الحازمة .
جاء نبيل ، في ذلك اليوم ، بعد أن أخلف موعده معي ، على غير عادته . كنَّا قد اتفقنا على أن نلتقي في مكتبي ، لنستكمل البحث في مشروعٍ اقترحه ، وكان شديد الحماسة لتنفيذه ، وهو تحقيق دواوين الشعراء العرب القدامى الذين لم ينضووا في خدمة مشاريع السلاطين . قال : هذا المشروع نستكمل به ماحقَّقناه ، وصدر عن داركم ، دار الكاتب ، من كتب التراث . قلت : وننصف المهمَّشين ، في تراثنا ، الذين قالوا : لا، ولم تُسكتهم مصيدة السلطان . تمتم : مارأيك ، هل يأتي من ينصفنا ، في زمنٍ اَتٍ ؟ لم أجبه اَنذاك . الاَن أجيبه : أنا سأنصفك ، يارفيقي . لن أترك أحداً يعرفك ، يسأل عنك ، أو لايسأل ، الا وأطلب منه أن يكتب مايعرفه عنك ، أو أستكتبه ، وأدفع له المبلغ الذي يريده ، وليكتب مايعرفه بحرية ، وتصدر " المصيدة " ، كما أردت ، وكما أريد .
أراد نبيل أن تصدر تلك السلسلة ، من دواوين الشعراء ، تحت عنوان : " شعراء عائدون ... ، الى المتن " . هو يملك معرفة وافية بالتراث العربي ، بأدبائه المنضوين وغير المنضوين ، ويريد من هذا المشروع أن يكمل أطروحته التي يعدُّها لنيل شهادة الدكتوراه ، وعنوانها : " السلطان في كتب التاريخ ودواوين الشعر " . قال : هذا المشروع يعرِّف بالشعراء الذين همَّشتهم الثقافة العربية الرسمية القديمة والحديثة ، ويعيدهم الى مكانهم الحقيقي ، الى المتن .
والاَن ، من يعمل معي في تحقيق هذا المشروع ؟ ترى ، هل يعود نبيل ، ونحقِّقه ؟
لم يأت نبيل في موعده ، في ذلك اليوم . قلقت . هذه ليست عادته . منذ عرفته لم يُخلف موعداً الا مضطرَّاً ، كان يتصل ليعتذر . ماالذي أخَّره عن المجيء ؟ ماالذي منعه من الاتصال !؟ قال لي المصحِّح شاكر العنبر ، وهو يراني في هذه الحال من القلق : تنتظر نبيل عامل ؟ قلت : صحيح . قال : لن يأتي . ازداد قلقي . وقبل أن أسأله ، أضاف : لاتقلق على مشروعك ، أنا حاضر . لم أدر الا وأنا أصرخ به : أنت !؟ تغيَّر لون وجهه ، وقال : أنا ؟ أنا لاعلاقة لي بما حدث له . قلت : ماذا حدث له ؟ قال : لاأعرف . قلت : كيف عرفت أنه لن يأتي ؟ قال : أتوقَّع ، فهو لم يغب يوماً ... . بدا مرتبكاً ، لم أصدِّقه ، فأضاف : أنت تعطيه أكثر ممَّا يستحق ، منذ جاء ليعمل لديكم في الكتابة والتحقيق والتحرير ، وهو يستحوذ على كلِّ شيء ، وتعطونني ، أنا الذي أعمل في خدمتكم منذ زمن ، مايفضل عنه . قلت له : أين نبيل ؟ ماذا دبَّرت له ؟ قال : لاأعرف . وخرج .
نبيل عامل رفيق قديم وصديق عمر. جمعتنا الأحلام الكبرى ، والسعي في سبيل تحقيقها . فرَّقتنا الخيبات المتتابعة . وافقت أنا ، بعد الحاحٍ من أبي ، على ادارة " دار الكاتب للدراسات والطباعة والنشر والتوزيع " العريقة ، والعائدة لأسرتنا ، وقرَّرت أن أتفرَّغ للعمل الثقافي ، بعد أن فقدت ثقتي بالسياسة والسياسيين ، وعاينت عبث أمراء الحرب الذين يزدادون شراسة كلما ازدادوا ثراء . طلبت من نبيل أن يساعدني . وافق ، وعملنا معاً ، وأنجزنا عدة مشاريع . وحقَّقنا جزءاً كبيراً من مشروع تحقيق كتب التراث ... . أذكر أنِّي طلبت منه أن يجمع ماكتبه ، وأن يعدَّه للطباعة ، لنطبعه ، وننشره ، فقال : لم يحن الوقت بعد . وهاهو الوقت قد حان ، وهذا دفتره معي ، وكتابات أخرى كثيرة عنه تكمل حكايته .
أمَّا هذا المرتبك شاكر العنبر الذي خرج قبل أن يخبرني بما يعرفه ، فقد جاء اليَّ منذ مدَّةٍ طويلة ، وكان يتنقَّل من ولاء الى ولاء ، يشكو الأوضاع الصعبة ، ويطلب عملاً ، فشغَّلته ، في التصحيح ، ولكنه دائم " النَّقِّ " ، وكثير الكلام .
اتصلت بنبيل ، بعد أن أقفل مركز الأبحاث أبوابه وفقدعمله فيه ، في اثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان والمركز ، وبعد انسحاب الجيش المحتل من بيروت ، وطلبت منه أن نعمل معاً ، فنكتب ونحقِّق وننشر ، ونواصل سعينا الى التغيير في المجال الثقافي ، فوافق ، وعملنا ، وبدأ شاكر العنبر يزعجنا ، ويشكو، ثم صار يُهدِّد ، ويلمح الى علاقة متينة له ب" أرقش " ، فخشيت منه على نبيل ، ترى هل لهما علاقه بغيابه واختفائه ؟
أعطاني نبيل دفتره ومغلَّفه ، وخرج من دون أن يجيب عن أيِّ سؤال من أسئلتي ، عن أسباب غيابه وتغيُّره ، وعن امكانية عودته الى اكمال مشروعنا ... .
اختفى نبيل . سألنا عنه ، أنا وأصدقاؤه ، وبحثنا طويلاً في كلِّ الأماكن التي يمكن أن نجده فيها ، فلم نعثر له على أثر . تعدَّدت تخميناتنا ، وتزايدت مخاوفنا ، ووجدت أنَّ أفضل ماأعمله هو أن أنفِّذ ماطلبه منِّي . أخبرت أصدقاءه الذين شاركوني في البحث عنه بما طلبه ، وطلبت منهم أن يكتبوا مايعرفونه عنه ، ففعلوا ، واستكتبت اَخرين ، وبغية اكتمال وجهات النظر ، طلبت من " أرقش " وشاكر العنبر واَخرين عرفوه ، أن يكتبوا ، فكتب الكثيرون ، ودوري أنا اقتصر على جمع ماكُتب ، ونظمه في بناءٍ روائيٍّ بدا لي جديداً ... ، أرجو أن أكون قد وفِّقت ...
* الفصل الأول من رواية جديدة ، لعبد المجيد زراقط ، تصدر قريباً عن دار البيان العربي ، تجدونها ، في جناح هذه الدار ، أن شاء الله تعالى ، في معرض الكتاب العربي القادم .
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية