28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | نظريات النقد الأدبي البنيوي وما بعده (4)/جريدة الأيام الإلكترونية

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | نظريات النقد الأدبي البنيوي وما بعده (4)/جريدة الأيام الإلكترونية أ.د.عبد المجيد زراقط :*
المقالة الرابعة من سلسلة المقالات والدراسات التي تحمل العنوان : "نظريات النَّقد الأدبي البنيوي وما بعده".
١٠ - قراءة نصِّية
في سبيل بيان تعدُّد المدلولات والتَّناص والحضور والغياب، نجري قراءة سريعة في الأنموذجين الآتيين:
1... صُنتُ نفسي عمَّا يدنِّس نفسي
وترفَّعت عن جدا كلِّ جبس
وتماسكت، حين زعزعني الدَّهرُ،
التماساً منه لتَعسي ونَكسي - البحتري
في قراءةٍ لهذا النَّص، أتوقَّف لدى "زَعْزعني الدَّهر..."، فزعزع يزعزع زعزعةً الشيء حرَّكه بشدَّة، وتزعزع المرء اضطرب وتذبذب، ولا يتزعزع: ثابت في موقعه وموقفه وعلى آرائه، وزعازع: الشدائد. وزعزع تقلقل. وزعَّ الإبل في السَّير: حثَّها. هذه عدَّة مدلولات معجميَّة، وإذا أسند الفعل إلى الدَّهر، وهو مدة الحياة الدُّنيا، والزَّمن الطويل هذا في الحضور. وفي الغياب: "لا تسبُّوا الدَّهر، فإنَّ القدر هو الدَّهر"، "أقمنا في هذا البيت دهراً" "أكل الدَّهر عليه وشرب"، القِدَم، "عضَّنا الدَّهر بنابه". دهري أي ملحد... دهَرَ القوم أمرٌ: نزل بهم. ما ذاك بدهري، أي عادتي، دَهْوره: دفعه فسقط ...، وهكذا، كما يبدو، ليس من مدلول واحد ثابت. وإذ نقرأ النَّص، في هذا الفيض من المدلولات، نسأل: أيُّ دهر زعزعه، ونلحظ هنا تعريف الدَّهر، ما يعني أنَّه معيَّن؟ فهل هو العمر الذي عاشه، فعضَّه بنابه، فبدا له طويلاً كأنَّه القدر المتمثِّل ريحاً تعصف به فتدهوره. وإذ نكمل القراءة نعرف أن هذا الدَّهر ليس قوَّة عمياء، وإنَّما هو يلتمس تحقيق هدف هو "تعسي ونكسي"، وهنا نلحظ صوت "س" الدَّال على الحزن، ما يشكِّل فضاء يجري فيه الصِّراع بينه وبين هذه القوَّة/القدر المشخَّصة، المتشكِّلة رمزاً للدَّنس وللجبس، وهو في هذا الصِّراع غير المتكافئ يصون نفسه ويتماسك. ونلاحظ هنا تكرار الدَّال على "الأنا" المقاوم للقدر القاهر، المتَّخذ شكل الريح ثماني مرَّات كأنَّه يريد إبقاء هذه "الأنا" التي تُحرَّك بشدَّة لتتدهور مُصانةً... ثم ترتسم أمامنا صورة بناء متماسك يُزعزع بالشدائد، هل من إشارة إلى بناء مجتمع يعمل هذا القدر الغاشم على دهورته، وتحضر من الغياب صورة الشاعر، وهو في مجلس المتوكِّل، عندما قتله ابنه، وصورته وهو في إيوان كسرى، ما يدلُّ على الفقد/الفناء، بوصفه نسقاً حياتياً يحكمه الدَّهر، وهو في مواجهة هذا القدر النَّسق لا يملك إلاَّ أن يصون نفسه ويتماسك كي لا يتدهور في الدَّنس، ففي الآتي الحياة الآخرة التي ينبغي أن يذهب إليها بلا دنس. 2 ... فلو رفع السَّماء إليه قوماً
لحقنا بالسَّماء مع السَّحاب...
3 ... إذا سقط السَّماءُ بأرض قوم
رعيناه، وإن كانوا غضابا...
جاء في "لسان العرب": "سماء كلِّ شيء أعلاه...، والسَّماء: سقف كلِ شيء وكلِّ بيت. والسَّماوات السَّبع: أطباقُ الأرضين. قيل للسَّحاب: السَّماء لأنَّها عالية. والسَّماء كلُّ ما علاك فأظلَّك... ويُسمَّى العشب أيضاً سماء... وسُمِّي المطر سماء... والسماءُ أيضاً المطرة الجديدة (هكذا في الأصل، وفي القاموس الجيِّدة...)، والسَّماء ظهر الفرس... وسماء النَّعل: أعلاها التي تقع عليها القدم. وسماء البيت: رواية. وسماوة كل شيء: شخصه وطلعته، والجمع من كلِّ ذلك سماءٌ وسماوٌ..."(). الواضح أنَّ لـ "الدَّال – سماء" عدَّة مدلولات تتغيَّر، وخصوصاً بتغيُّر بالإضافة والسِّياق، وإن قرأنا البيتين، لاحظنا أنَّ الشعر/الأدب لا يقدِّم معنىً واحداً مستقلاً، وإنَّما يؤدِّي دلالةً تتشكلُ من عدَّة معانٍ. فالسَّماء الأولى، في البيت الأوَّل، قد تكون السَّماء التي تعلو الأرض، وعلوُّ الأفعال والمعالي...، وعلوّ المكانة والمنزلة، والإطلالة من عُلوٍّ على الخلق، ثم تتشكَّل صورة القدرة الرَّافعة إليها قوماً، وتليها صورة اللِّحاق إلى السَّماء، إلى العلو، مع السَّحاب. وفي الغياب، تأتي صورة القمر المتربِّع في السَّماء، وصورة السَّحاب الذي سيغطِّي القوم الذين رفعهم السَّماء، وقد يكون السحابُ القوَّة/السيف المرافق للاَّحقين... وهكذا يتشكَّل فضاء من عدَّة مدلولات: مفاهيم وصور لغوية. يغدو كلٌّ منها دالاًّ. وفي البيت الثاني، يسقط السَّماء/المطر، فيرعى قوم الرَّواي/الأنا السَّماء/العشب، وتتشكَّل صورة سقوط السماء لتستدعي حالة مفزعة، مخيفة. وهذه الحالة تحدث في أرض قوم/الآخر، ففي هذه الحالة تستولي الأنا على ما تؤتيه هذه الحالة بالقوَّة، ولا يردعهم غضب الآخر وهنا ترتسم صورة قوم غضاب، يختنقون بغضبهم غير المجدي، وليس أمامهم سوى معاينة عمليَّة الرَّعي/السَّلب/الغزو/وهم في تلك الحالة من الغضب العاجز، وهنا تتشكَّل صورة ملموسة للقهر، قهر القوي القادر للضعيف العاجز الذي يُسلب ما أعطته إيَّاه السَّماء، وهو ينظر، ولا يستطيع الفعل، وهنا يُستدعى من الغياب أنَّ ما يُسلب هو عطاء الله تعالى لهولاء العاجزين، فتعظم فظاعة القهر/السلب من نحوٍ أول والعجز من نحوٍ ثانٍ، وهذا كلُّه ليس معنىً ثابتاً جاهزاً، وإنما دلالة تشكِّلها قراءة النَّص الشعري/الرِّسالة.
وإذ، نتبيَّن تشكُّل دلالة النَّص، بمعزل عن مؤلِّفه، نتذكّر أنَّ الكلام على استقلال النَّص ليس جديداً في النَّقد الغربي فالشَّاعر الفرنسي "بول فاليري" (1871 – 1945) دعا إلى التركيز على بنية النَّص اللغوية، ورأى أن " المؤلِّف تفصيل لا معنى له"، والشاعر الفرنسي "مالارميه" رأى أنَّ اللُّغة هي التي تتكلَّم وليس المؤلِّف. ورأت الشكلية الرُّوسية أنَّه للقبض على شعريَّة النَّص لا مجال للاعتماد على حياة المؤلِّف ونفسيته، ولا لدراسة بيئته وجنسيته. والمعروف أن التحليل البنيوي والأسلوبي والشِّعري نسقي داخلي. وإن كان "بارت" فصَّل من هذا الشأن، وقدَّم نظريَّة متماسكة تشمل عدَّة أمور مترابطة، فإن جوليا كريستيفا" (24/6/1941)، طوّرت هذه النظرية، وبلورت نظرية "التَّناص".
* عبد المجيد زراقط.أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية- بيروت. الصفحة الثقافية