28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | التجريب القصصي - القصَّة الجديدة/ جريدة الأيام الإلكترونية

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | التجريب القصصي - القصَّة الجديدة/ جريدة الأيام الإلكترونية أ.د. عبد المجيد زراقط :
عرفت كتابة الرِّواية، أو القصَّة بمختلف أنواعها، سعياً إلى التَّجاوز يعتمد التجريب غير المقيَّد بأصول وقواعد مسبقة. وإن كان لنا أن نتحدَّث عن إنجازات هذا التجريب الذي لا ينفكُّ يتواصل، فسيكون حديثنا عن خصائص عامَّة في نماذج شائعة متنوِّعة، إن لم نقل متباينة، ومن أبرز هذه الخصائص نذكر:
مصدر المادَّة القصصيَّة: تتمثَّل المادَّة القصصيَّة ليس في معطيات الحياة الواقعيِّة الخارجية فحسب، وإنَّما، أيضاً، في معطيات الحياة الدَّاخلية للإنسان: اللاشعور، الحلم...، وفي معطيات اللاواقع: ما هو غرائبي وعجائبي، وفي ذلك كشف لما يرغب الإنسان فيه في مقابل تقديم ما يعرفه، كما قال أرسطو وغيره من متَّبعيه من قبل. والحلم، كما يرى الدَّاعون إلى اعتماده مادَّة قصصيَّة، لغة اللاشعور، وهو تحقيق مقنَّع لرغبة مكبوتة، ويظهر في صور من الأساطير والخرافات غريبة، ولا يقتصر على ما يراه النائم في غفوته، وإنَّما يشمل، أيضاً، ما يراه اليقظ. وفي هذا، كما يبدو، انبثاق واقعي، وتجلٍّ لا واقعي وخروج على المفهوم الأرسطي التقليدي للأدب، بأنَّه محاكاة للطبيعة والحياة.
ويمكن أن نفيد من شهادة لفرجينيا وولف (1882 – 1941)، وهي رائدة من روَّاد القصَّة الجديدة، في تبيُّن ما يمكن أن تكون عليه مادَّة نوع من أنواع القصَّة الجديدة.
"لنتأمَّل عقلاً عادياً، في يوم عادي، للحظة واحدة، فنجد أنَّه يستقبل آلاف المؤثِّرات سطحيَّة ومضحكة وعابرة وعميقة، وأخرى حادَّة كالسكين، جميعها تهجم على العقل في وقت واحد، ومن كلِّ ناحية، في زخَّات متواصلة من ذرَّات لا تحصى؛ وهي بسقوطها تغيِّر في هذا العقل كلَّ لحظة... ما تحدثه هذه الزخَّات في تربة الذات هو ما يتمُّ تجسيده باللُّغة فنَّاً...، من واجب الكاتب أن يلتقط هذه الخطرات الروحيَّة المجهولة المتغيِّرة أبداً... المحدودة بكلِّ ما فيها من غرابة وتعقيد من دون أن يضيف إليها من الخارج إلاَّ ما لا بدَّ منه...".
وتضيف: "يجب أن نسجِّل الذرَّات، وهي تتساقط على الذهن، بالنظام الذي تساقطت فيه، ولنتَّبعه مهما كان مفكَّكاً متنافراً في المظهر. ذلك الشكل الذي يؤثِّر في الوعي كلٌّ مؤثِّر سواء كان منظراً أم حادثاً. إنَّ كلَّ طريقة للتعبير عن ذلك هي صحيحة. كلُّ شيء يصلح أن يكون مادَّة للقصَّة". الحدث: ليس من حدث محدَّد يعتمد عليه بوصفه العنصر الأساس في القصَّة، وإن كان من حدث فمفهومه يختلف، فقد تُعرض، مثلاً، تجربة نفسيَّة تتألَّف من مجموعة من اللحظات مشتَّتة... تدور في ذهن شخص ما، كما أنَّ نظام ظهور وحداته يختلف عمَّا هو تقليدي متمثِّل في تعاقب زمني سـبـبي قوامه بداية وعقدة وحل. كاتب القصَّة الجديدة مجرَّد ملتقط لوقائع، لهواتف، لإشارات، لشطحات خيال وحلم لا شعور وذكريات... يقيم منها بناءً جديداً تغيب عنه الحبكة التقليديَّة، تتغيَّر طبيعتها، كأن يتم التركيز على برهة الصراع – الأزمة منذ بداية القصَّة.
الشخصية، ليس من شخصية – بطل، وقد يُكْتَفَى بذكر اسم الشخصيَّة أو الدلالة عليها بضمير: هي، هو، ما يعني أنَّها تمثِّل حالة وليس شخصاً معيَّناً. ويرى بعض الباحثين؛ في تفسير ذلك، أنَّ الإنسان في المجتمع المعاصر والغربي بخاصة، رقم، أو كائن مستهلك، ليس من فاعلية له سوى قبول الواقع وتحسينه، إن أمكن، بتوفير المزيد من السلع الاستهلاكية، فالأشياء هي الفاعلة في هذا العالم، ولهذا تمَّ التَّركيز عليها، بوصفها "مرايا الوجود المعاصر". وفي مقابل هذا الاتجاه الذي يطمس معالم الشخصية، توجد اتجاهات يركِّز كلٌّ منها على عنصر من عناصر هويتها:الجسدي أو النفسي أو العقلي أو الاجتماعي، والاتجاه الأبرز يُعنى بالتركيز على العالم الداخلي للشخصيَّة والنظر إليها من عدَّة زوايا، ما يكشف عن جوانبها العديدة وارتباطاتها الكثيرة.
الزَّمن القصصي: الزمن التاريخي الخطي، أو الخارجي، ليس زمن معظم نماذج القصَّة الجديدة، وإنَّما زمنها هو الزمن النفسي، وهو تشكُّل زمني تكوِّنه الحالة، أو هو شبكة ينسجها تداخل الأزمنة: الماضي البعيد والقريب، الحاضر في غير مكان، المستقبل، زمن الحلم...، تصف ناتالي ساروت القصَّة الجديدة، فتقول: "إنَّها تغوص إلى أعماق شخصياتها، وتخلط بين الأزمنة، فيتداخل الوعي باللاوعي.
المكان القصصي/الفضاء: تُعْنَى القصَّة بما يسمَّى الفضاء القصصي، ويعني أمكنة القصَّة وأشياءها منتظمة في علاقات بعناصر القصِّ الأخرى، وبخاصة بالشخصيات. وتقديم هذه الأمكنة والأشياء ليس تقديماً لأثاث، أو تزييناً وزخرفة، وإنَّما هو وظيفي يوهم بالمعنى ويخلقه...
اللُّغة: تتنوَّع اللُّغة، فهي إمَّا لغة تقترب من اللُّغة الشعريَّة المشِّعة بالإيحاءات، أو لغة الوصف المحايدة الموضوعية، أو لغة الإلماح وإلإلماع... التقنيات القصصية:
الوصف الموضوعي المحايد للأشياء، يحدِّد الأشياء بدقَّة وتفصيل: الشكل، الحجم، الملمس، الصفات... أو يشير إليها إشارات خاطفة دالَّة، عين الكاتب تلتقط الأشياء وتمسكها، تراها وتريها في موقعها الموظَّف في أداء الدلالة. تقول فرجينيا وولف في هذا الصَّدد: "أريد أن أكتب رواية الصَّمت، من الأشياء التي لا يقولها الناس، هل استطيع؟".
وقد يستخدم، هنا، وصف الجو/الفضاء والموقف بدلاً من السرد التقليد. تيار الشعور/الوعي، ويعني تسجيل دفق التداعيات في اضطرابها واختلاطها، وقد استخدم جيمس جويس (1882 – 1941)، في رواية "عوليس" الصادرة عام 1922، هذه التقنية، كما أنَّها تمثَّلت في رواية مارسيل بروست "البحث عن الزَّمن المفقود"، وفي روايات فرجينيا وولف: "المنارة"، "غرفة جاكوب"، و"مسز دالواي"...
وبغية تسجيل التفاصيل التي يقدَّمها هذا التيار، عمدت وولف إلى تكثيف زمن الرَّواية، فرواية "المنارة" تستغرق أحداثها بضع ساعات، كما أنَّ زمن الرِّواية في "السيدة دالواي" و"غرفة جاكوب" أقل من يوم. وقد رفضت وولف أن تسمِّي هذا التداعي "المونولوغ الداخلي" كما سماه جويس ولا تيار الوعي كما سماه النَّقد، وسمَّته التيار - الشعر، ووصفت صنيع جويس في "عوليس" بقولها: "يكشف ذبذبات النار الداخلية الخفيَّة التي توجِّه تعابيره، ورسائل ضوئيَّة تلمع في الدماغ، ولإظهارها جليَّة أبعد كل ما هو حشو تقليدي".
تصوير الجو غير الواقعي بطريقة تبدو واقعيَّة للغاية، وأشهر من ابتدع هذه التقنيَّة في قصصه التشيكي فرانز كافكا (1883 – 1924). وهذا التصوير يخلق عالماً غرائبيَّاً أو عجائبيَّاً، فيقرأه القارئ ويتابعه كأنَّه عالم واقعي آخر يختلف عن عالمنا، لكنَّه مقنع للقارئ الذي يتابع مسار الحدث الرِّوائي فيه. ومن نماذج هذا النوع من القصِّ أذكر قصَّة قصيرة للقاصِّ اللبناني الياس العطروني عنوانها: "حلم"، تخلق عالماً تجرُّ فيه المرأة، ولا يبقى سوى فمها الذي يصرخ: "وامعتصماه"، وينتشر هذا الحلم في المدينة، ويصبح، كما يقول الخبراء الأجانب المستقدمون لعلاجه "وباءً". تخفق وسائل عديدة في علاج هذا "الوباء"، وبعد التقصِّي يكشف الخبراء الأجانب أنَّ السبب يعود إلى المسجد الذي يحمل، اسم "المعتصم"، فهل يهدم المسجد، ويُبنى مكانه مسجداً يُسمَّى باسم آخر؟" أو هل يتمُّ تغيير الاسم؟ وتبقى النهاية مفتوحة. التناوب/التضاد أو التناوب/التناظر...، وتتمثَّل هذه التِّقنيَّة في تقديم وحدة قصصيَّة تليها وحدة أخرى تقوم بينها وبين الأولى علاقة ما: تضاد، تناظر... ومن النماذج المشهورة التي استخدمت هذه التقنية رواية "الغيرة" لآلان روب غريِّيه، ففي هذه الرِّواية يتمثَّل دور الرَّاوي، وهو الزَّوج، في أن يصف امرأته في وحدة قصصيَّة، ثمَّ ينتقل ليصف العشيق في وحدة تالية، ومن خلال العلاقة التي تقوم بين الوحدتين المتناوبتين تتولَّد حالة لدى الزوج، وهي الغيرة. وفي هذا إلغاء للتسلسل الحدثي – السَّرد، وإقامة لعلاقة بنائيَّة قوامها تضاد حالة الزوج مع العلاقة التي يوظِّفها الوصف بين الزوجة والعشيق.
التنضيد: ويعني إدراج وحدات قصصية في سياق غير نامٍ، تقوم العلاقة بين وحداته على المجاورة الكاشفة دلالة، كأن تقرأ في قصَّة ما يأتي: وحدة قصصية تسجِّل أنَّ الإذاعة اللبنانية كانت تبث أغنية: سيَّجنا لبنان...، وتقرأ في وحدة قصصيَّة أخرى، تُنَضَّد مجاورة لها وثيقة تفيد أنَّ مطار بيروت الدولي قصف، ودُمِّرت الطائرات الجاثمة على مدرَّجاته، وقد تكون هذه الوثيقة خبراً في موجزٍ للأخبار تبثُّه الإذاعة نفسها، والعلاقة بين الوثيقتين بنيويَّة. التقطيع السينمائي: ويتمثَّل في تقديم مشاهد، أو مناظر، أو لوحات، تتابع أمام القارئ كأنَّه إزاء شاشة سينمائيَّة. يقدِّم الكاتب ذلك بطريقة تفصح عن رؤيته من دون أن يعلِّق أو يتدخَّل. فالرِّوائي، وهو يستخدم هذه التقنيَّة، غدا كالمخرج في السينما، لم يعد يعبِّر عن نفسه إلاَّ من طريق اختيار المشاهد وإدراجها في نظام ظهور دالٍّ...، وقد يعيد الرَّاوي اللقطة غير مرَّة في تكرار موظَّف.
الكولاَّج: ويتمثَّل في ترتيب وحدات متنوِّعة نذكر منها على سبيل المثال: توثيق صحفي، تاريخي؛ سرد؛ وصف... ما يشكِّل بناءً كاشفاً ودالاًّ. تنوُّع التقنيَّات: ويتمثَّل هذا التنوُّع في استخدام مختلف التقنيات: السَّرد، التقطيع، الوصف، الاسترجاع، تيَّار الشعور، التناوب...، بغية إنارة العالم الذي تُحْكَى حكايته.
دور القارئ: وفي الوقت الذي تخلَّى فيه القاصُّ عن بثِّ صوته، تولَّى القارئ هذا الدَّور، وغدا شريكاً في إنتاج النَّصِّ وتبيُّن دلالته. وفي هذا الصَّدد تقول ناتالي ساروت: "دور الكاتب أن يقلق القارئ ويحثُّه على السُّؤال والبحث عن إجابة. ومن نماذج ما يثير البحث أن لا تُعْرَف النهاية وتُتْرَك مفتوحة...، وأن يكثر المسكوت عنه/الغياب، ويترك للقارئ أن يعرف ذلك.
مزج الأنواع/اللاَّنوع: يرى بعض المجدِّدين أنَّ الكاتب المسكون بهمِّ الإبداع ينبغي ألاَّ يلتزم بأصول يقتضيها هذا النوع الأدبي أو ذاك، ويذهب بعض آخر إلى القول: ليس من أنواع أدبية، وإنَّما هناك نصوص فريدة متميِّزة، تتداخل فيها الأنواع، وينفتح فيها النَّص لمختلف التقنيات.
* د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية

  • علامات: