28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | مظفر النوَّاب ، الظاهرة الثقافية العربية الفريدة

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | مظفر النوَّاب ، الظاهرة الثقافية العربية الفريدة عبد المجيد زراقط :
توفي ، منذ أيام ، الشاعر العربي مظفر النوَّاب ( ١٩٣٤ – ٢٠/ ٥ / ٢.٢٢) . المفارقة التي لُحظت ، بعد وفاته ، تمثلت في ثنائية ، طرفها الأول أنه كان في السنوات الأخيرة من حياته " الشاعر الكبير المنسي " ، كما شكا لأحد أصدقائه ، وطرفها الثاني الاهتمام الكبير به بعد وفاته ، من النقاد والشعراء ووسائل الاعلام والتواصل ، ومن السلطات العراقية التي أرسلت طائرة الى الشارقة ؛ حيث توفي في احدى مستشفياتها ، لنقل جثمانه الى العراق ، وتشييعه في موكب مهيب رسمياً وشعبياً ، في الوقت نفسه الذي هتف فيه "شباب الحراك العراقي " ، في أثناء تشييعه : " مظفر النواب لنا ، وليس للحرامية " ، " مظفر يمثل ظاهرة مقارعة الطغيان والفساد ... " .
ينطق هذا الهتاف بالحقيقة ، فمظفر النواب يمثل ظاهرة ثقافية فريدة ، بمعنى الثقافة العام ، فريدة في تاريخ الثقافة العربية ، فهو شاعر مختلف ، صاحب صوت خاص ، ينطق بنصٍّ شعري ذي شعرية خاصة به .
بدأ ينشد بالعامية العراقية الجنوبية ، عامية الأهوار ، ثم أنشد بالفصحى ، أنشد ، أوغنَّى شعره بصوت القلب النابض بحب الناس ، انشاده شجيٌّ كاشف يضع حواس متلقيه جميعها في حالة يقظة وتفاعل ، وغُنِي شعره ، ووزِّع في أشرطة كان يتم تداولها بين الرائين الى تغيير بشغف ، ويُغبط من يمتلك منها الشريط أو الاثنين ، وهذا ماحدث لي في زمن كانت فيه الأحلام لاتزال مشتعلة . ولهذا سمِّيت قصائده بالقصائد المهربة . كما كان ناقداً أدبياً نافذ الرؤية الى جوهر الشعر .
واذ كان شعره يقارع الطغيان والفساد كان هو يفعل ذلك ، فيقرن الفعل بالقول ، فهو الزاهد المستقيم ، الرائي ، الشجاع ، الحالم ... ، وسيرته مسار من الفاعلية الساعية الى تحقيق الأحلام بالتحرير والعدالة والتنمية ، فمنذ بدايات العمر ، سُجن وعُذب في زمن المملكة الهاشمية ، ثم حكم بالاعدام فالمؤبد في زمن طغاة الانقلابات ، وأسهم في حفر نفق بالملاعق والسكاكين ، وخرج الى المنفى ، وبقي فيه مدة خمسين عاماً وعاماً ، فشكلت الغربة هويته ، وهذا شأن الكثير من مثقفي العرب في هذا الزمن ، وخصوصاً مثقفي العراق ، فحزن العراق ، في زمن الطغاة ، طويل ، وهو حزن تاريخي بدأ بزياد وابنه ويزيد سيده والحجاج ... ، وامتد الى صدام ومن سبقه .
مرت سيرته الشعرية بمراحل ، يمكن القول انها ثلاث : الأولى المرحلة العراقي ( ١٩٥٩- ١٩٦٩ ) ، ويمثلها ديوانا " الريل وحمد " و حجام " ، والثانية المرحلة العربية الأولى ، ويمثلها ديوان " وتريات ليلية " ، والثالثة المرحلة العربية الثانية، ويمثلها ديوان " المساواة أمام الباب الثاني " . هذا ، اضافة الى عشرات القصائد الأخرى غير المنشورة ، والمسجلة على أشرطة ، وان كان للسلطات العراقية أن تعطي النواب بعض حقه ، فعليها أن تنشر أعماله محقَّقة وكاملة ، وبحلة أنيقة .
في المرحلة الأولى ، صدر شعره عن عالم " الهور " ، والهور ليس مجرد مكان جغرافي ، وانما هو تاريخ وروح . في" الهور" كان يدوِّر على القمر ، وليس عن أي قمر . يقول : " يعجبني أدوِّر عالكمر بالغيم / ماأحب كلش كمر " . يترك للصورة الفريدة ، جوهر الشعر ، أن تنطق ، هو يريد ل" القمر " / الوطن أن يمطر غيمه ، وأن يخصب ... . ويحزن مثل بلبل ، عندما يلقى البستان كله بلا تين يقول : " مو حزن... ، لكن حزين / مثل صندوق العرس / ينباع فردة عشك / من يمضي السنين / مو حزن ... ، لكن حزين / مثل بلبل كعد متأخر / لكه البستان كله/ بلا تين / مو حزن ... ، لكن حزين / لكن أحبك ، ياأسمر ... " . هل البلبل هو المواطن العراقي والعربي ؟ هل البستان الفاقد ثمره هو العراق والوطن العربي ؟ هل الأسمر الذي يحبه هو هذا الوطن العربي الذي يريد له أن يُخصب ؟
في المرحلة العربية الأولى ، أنشد الوتريات الليلية ، وغنى للفقراء والحرية والعدالة ، ولفلسطين والقدس والعروبة ...، وغنى هجاءه للطغاة الفاسدين الذين وأدوا أحلام العرب ، كما كانت توأد فتياتهم في جاهليتهم الأولى . كان مباشراً ، واستخدم الشتيمة وألفاظاً نابية ، لكن هذه الشتائم وألفاظها النابية ، ذات دلالات تتجاوز دلالاتها المعجمبة الى دلالات ينتجها السياقان : السياق النصي والسياق التاريخي الصادر عنه ، ومن يرسل اليه النص ، ف" القحبة " ، على سبيل المثال ، هي " قحبة " سياسية اجتماعية ، تتمثل في الطغاة الذين تسلطوا على الوطن والشعب ، من دون أي مشروعية ، عدا مشروعية القوة والقمع ... ، و" زناة " الليل ، في مثال اَخر ، في قصيدة " القدس عروس عروبتكم " هم المستعمرون الغربيون وأداتهم الصهيونية ، وأدواتهم من تابعين ... . و" عروس عروبتكم " رمز دال على هوية القدس وأهميتها . والرموز كثيرة في نصوصه ، ومنها رموز " علي " و" الحسين " و" القرمطي "... ، وهذا ماجعل بعضهم ، مثل أحمد البرقاوي ، يصفه ب " الشتام الطائفي " ، في مقالة له في مجلة " نزوى العمانية " .
وان كنا قد أشرنا الى هوية الشتائم الشعرية ، فاننا نرى أن توجيه تهمة الطائفية لمجرد استخدام رموز مثل الرموز المذكورة قبل قليل ، هو من قبيل التجني والافتراء ، ووليدة موقف مسبق ، لعله طائفي ، فهذه الرموز ليست شيعية فحسب ، وانما هي رموز تاريخية اسلامية ، وانسانية ، وقد استخدمها شعراء كبار ، مثل بولس سلامة وسعيد عقل وجورج شكور و أدونيس ومحمود درويش ، ومحمد الماغوط ...، وكتب عنها باحثون مسلمون ومسيحيون ، ومنهم طه حسين وعباس محمود العقاد وعبد الرحمن الشرقاوي وجورج جرداق ، فهل هؤلاء جميعهم شيعة طائفيون ، يصدرون عن مكبوت طائفي حاقد ، كما قال برقاوي !؟
وبرقاوي يصدر ، في مقالته تلك ، حكماً غريباً مفاده أن شعراء عرب كبار ، ومنهم : أدونيس ومحمود درويش وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأحمد عبد المعطي حجازي .... ، هم " شعراء المرحلة الايديولوجية الشيوعية والقومية الذين هم أقرب للانحطاط الشعري ..." . هذا الحكم ، أولا، حكم عام ، واَفة البحث العلمي ، مثل هذا النوع من الأحكام ، فهل درس برقاوي شعر تلك المرحلة ، وخلص الى هذه النتيجة ؟ وهذا الحكم ، ثانياً ، غير صحيح ، ونصوص هؤلاء الشعراء الكبار شاهدة على تجديدهم الشعري ، وتألقهم الرؤيوي والجمالي ، وان كان من رؤية ايديولوجية في شعرهم ، فالسؤال الذي يثار ، في هذا المقام : هل من شعر من دون رؤية ايديولوجية ؟ الاجابة : ليس من شعر ، ومن أدب ، ومن فن ، من دون منظور أيديولوجي يرى الى العالم وقضاياه .
وقد نشر برقاوي مقالته تلك على صفحته على " الفيس " ، وشاركها أدهم مسعود القاق ، وقرأت تعليقاً لأحدهم على هذه المقالة أُثبت نصه هنا ، من دون تعليق ، فأنا لاأعرف برقاوي ، ولا كاتب هذا التعليق :
" من أين لشخص تربع في حمى غسان عبود ، صاحب قناة أورينت المغرقة بالطائفية ، ويعتاش من دراهمه ، أن يتهم شخصا كمظفر بالطائفية !؟ " .
وفي المرحلة العربية الثانية تألقت شعريته ، وتوهجت خصائص ميزت شعره ، ومنها : العفوية والتلقائية ، والصدق الشعري ، والمشاكسة ، والتمرد ، والايقاع المغنَّى ، والصورة المبتكرة ، والرموز الدالة ، والمعجم اللغوي الغني بإيحاءاته ، اذ صدرت نصوصها عن وجع عتيق ، فقد غدا مصلوباً على أمل أن لايموت غريباً مثل شبح ، وخاطب عالمه بقوله :" ياعالما بلا صديق / ياعالما يختنق الانسان فيه ، في الزفير مرة ، ومرتين في الشهيق ..." . ويهتف : " من تشتريني بقليل من زوايا عينيها !؟ " . التعب والحزن لازماه ، وغدت الغربة هويته ، يقول :
" المنفى يمشي في قلبي / في خطواتي ... ، في أيامي / يسافر في كل قطار أركبه / في كل العربات / أراه في نومي / يمشي كالطرقات أمامي ... " ،
وغدا يسأل سؤال المنفيِّين في غربة عن الديار ، والمنفيين في الديار نفسها : " كيف نطفي النار بالنار !؟ " ، و" ليش اَنه وأنته بعطش!؟ / موش احنه نبعة ونبع !؟ ".
انهما السؤالان المؤرِّقان ، سؤالا الناس العاديين ، يطرحهما الشاعر الرائي الذي يمثلهم ، وينطق بألسنتهم ، ويصدر في شعره عن همومهم . ويكفي مظفر النواب أن يكون هذا الشاعر ، في زمن قل فيه أمثاله .
* د. عبد المجيد زراقط - أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي لبناني