عبد المجيد زراقط، الوطن والغربة في الرواية اللبنانية.. روايات لِإملي نصر الله وعوض شعبان أنموذجاً(2) / جريدة الأيام الإلكترونية
١ - تعريف
قدم عوض شعبان (١٩٣١ -...) ، الروائي والقاصُّ والمترجم اللبناني ، الى الكتابة من الحيِّ الشعبي ؛ حيث ولد ونشأ في منطقة " المسلخ – الكرنتينا ". انصرف الى العمل في اَونة مبكرة من عمره ، فتابع تعليمه في مدرسة مسائية . بدأ الكتابة ، وهو في العشرين من عمره ، وشارك في مسابقة للقصة القصيرة أعدَّتها، اَنذاك ، مجلة " الأحد " .
كانت الأسوار منيعة أمام تحقيقه ذاته في وطنه الذي تكشف قصة : " العودة الى الجحيم " تفتُّت مجتمعه وتناقض مكوِّناته وانفصام عناصره . ويسلِّمه " حزام البؤس " الذي يعيش فيه الى التسكُّع . واذ يطول زمن تسكُّعه المجاني، وعيشه في الهامش خارج نسيج المجتمع وفقد الفاعلية والتحقُّق ، يقصد البحر ؛ حيث الأمل باَفاق بعيدة ، بعد أن رفض الانخراط في الحرب ، و يسافر الى البرازيل . في تلك البلاد البعيدة ، كانت " الحقيبة الصفراء " التي يحملها " المسكاتي : البائع المتجول " قدر الباحثين عن لقمة العيش رفيقته ، فبدأت معاناة أخرى أشدُّ قسوة وأمرُّ طعماً .
وعمل كذلك ملاكما يواجه خصمه على الحلبة بقوَّة يكوِّنها " القهر " الذي كان يعانيه . ومن مظاهر هذا القهر صورة المغترب الذي كان يملأ معدته بالماء ؛ وذلك لكي يكتفي بوجبة واحدة في اليوم .
عاش عوض شعبان ، في الغربة ، سبع سنوات ، كانت غنية على غير مستوى ، اذ انه انخرط في علاقات العمل في بلاد جديدة تمثل الغرب ، في جانب ، وتجربة جديدة في العيش المفتوح أمام العديد من الأعراق والأجناس والأديان ... ، في جانب اَخر ، واطَّلع على لغات تلك البلاد واَدابها ، من طريق دراسته ، في معهد مسائي ، اللغات الاَتية : البرتغالية و الإسبانية والايطالية ، ما أتاح له ، في مابعد أن يترجم من اَداب هذه اللغات الكثير من الأعمال الأدبية . وقد أثمرت هذه التجربة الحياتية المعيشة رؤية الى قضية أساس في انتاجه الأدبي ، وهي قضية العلاقة بين الشرق والغرب ، والغرب المعني هنا هو غرب أميركا اللاتينية المختلف عن الغرب الاستعماري الأوروبي الذي كُتب عنه الكثير في الأدب العربي .
عاد عوض شعبان الى لبنان في العام ١٩٦٠ ، ليعمل في الصحافة ، ويواصل الدراسة والكتابة الروائية والقصصية والترجمة ، فنال اجازة في التاريخ . دمَّرت احدى الميليشيات اللبنانية ، الحي الذي كان يقيم فيه ، وهجرت سكانه ، فدُمر ، في ما دُمر بيته وبيت أسرته ، وقُتل والده ، وهجر هو كما هجر من بقي حيا من أهل الحي جميعهم .
أحيل الى التقاعد ، بعد ان بلغ السن القانونية ، ليتفرغ للكتابة والترجمة ، غير أن العدوان الهمجي الاسرائيلي على لبنان ، في تموز ، عام ٢٠٠٦ ، دمِّر في مادمِّر ، منزله في حارة حريك ، فاحترقت مكتبته ومخطوطاته ، وضاع جنى عمر من العطاء مديد ، وهجر من جديد ...
أصدر أربعة عشر عملاً قصصياً : روايات وقصص قصير ة ، صدر أولها "الاَفاق البعيدة" سنة ١٩٧٩ ، واَخرها" في أرض التيه" سنة ٢٠١٤ ، وترجم اثني عشر عملاً أدبياً لكبار من أعلام الأدب العالمي ، ومنهم غوغول وتشيخوف واَمادو ...
٢ - سيرة الغربة
للغربة سيرة تتمثل في سِيَر المغتربين ، ومن هؤلاء عوض شعبان الذي روى هذه السيرة في غير قصة ورواية ، من قصصه ورواياته . واذا كنا قد تعرَّفنا الى شيء يسير من هذه السيرة في تعريفنا بالروائي ، فإننا سنكمل هذا التعرُّف ، فنجري قراءة في اَخر ماكتبه : "في أرض التيه " ، وهو عنوان دالٌّ على هويَّة الغربة .
تبدأ السيرة من الحلم بالخلاص من بؤس الواقع في الوطن ، المتمثِّل بالفقر الذي يحرم المواطن من العيش بكرامة في وطنه ، ومن الزواج من حبيبته التي اَثر أبوها ان يزوِّجها من مغترب عاد ثريَّاً وراح يبحث عن جميلة لتكون شريكة ماتبقَّى له من عمر أمضى شبابه في بلاد الشقاء .
يرحل ، ويفكر في العودة ثريَّاً ، بعد أن يعثر على " الكنز " في الغربة ، ويعود به الى وطنه . ها هو الرَّاحل الى البرازيل ، من طريق الأرجنتين ، بسبب عدم حصوله على تأشيرة دخول الى البرازيل ، يقول بعد أن يسمع قصص ركَّاب القطار ، وهي تدلُّ على معاناتهم وضعاً أقسى من وضعه : "... هل كنت أرثي لهم أم أرثي نفسي ، أنا الانسان الضائع في متاهات الحياة ... وهذا هو قطار الشمال الأرجنتيني ، يلقي بي هنا عند الحدود ، لأعبر النهر ، وأستقلَّ قطار الجنوب البرازيلي ...سعياً الى تجسيد ذلك الحلم القديم ، في العثور على كنزي الوهمي " ( ص. ٣٣ و٣٤ ) . ويفاجأ بأنَّ " مدن الصفيح في كلِّ مكان " ، ويبدو له ، المغترب الصومالي " قمراً أسود " يضيء عتمة كوخه ، ويقرِّر أنَّ " الفقر وحده أبو الشقاء في هذا العالم " ( ص٢٩ و٣٥ و٤٤ ). وفي كشف شخصية المغترب ، يرى أنَّه يسعى ، اضافة الى الخلاص من الفقر ، الى " الهرب من مجتمع منغلق " ، وقد جاء الى الغرب ، وهو يتصوَّر أنَّ "النساء ستتهافت عليه حالما يطأ رصيف المرفأ " ، لكنه يفاجأ بأنَّ هذا وهم ، فيروح يرمق النساء كأنه لم ير امرأة من قبل( ص. ١٣٦ و٣٦ ) . يعيش المغترب في أرض التيه ؛ ويعاني مرارات هذا العيش ، ويكون لفئة كثيرة العدد أن تحيا في منزل كئيب يفتقر الى أبسط مستلزمات الراحة ، ويكون لفئة أخرى قليلة العدد أن تحيا في شقق أنيقة فيها كل مايطلبه المرء ويشتهي .
وتبرز، في هذه السيرة ، مشكلة انسانية كبرى ، فالمغترب يتزوَّج في بلاد الغربة من ابنة تلك البلاد ، وينجب ، ويعيده " الجمر الغافي " الى الوطن ، ويطرح السؤال : ماذا عن المرأة والأولاد المتروكين لمصيرهم . ترسل له شريكة شبابه في بلاد الغربة التي غادرها : " ماذا سيكون وضعنا ، اذا لم تعد الينا لاسمح الله بذلك...!؟ " (ص. ١٧ ) . وتغدو المشكلة أكثر مأساوية عندما تكون تلك المرأة صديقة وتنجب منه ، وهو لايريد الزواج منها ، فتمقته بعد أن يعلن لها ذلك ، وتحرمه من رؤية ابنه الذي لايعترف به أباً بعد أن كبر، كأنه يرد له صنيعه عندما لم يعترف به ابناً من قبل . ويحدث تغيير في مجتمع المغتربين ، ففي المرحلة الأولى من الهجرة - هجرة الجيل الأول ، كان المهاجر يشعر بأنه يعيش في بيئته بين أهله يقرأ الصحف العربية ، ولأدباء وكتاب كبار ، لكن "تلك الحقبة اندثرت ، مع نشوء أجيال من أبناء المهاجرين لا يحسن أفرادها النطق أو القراءة أو الكتابة بلغة اَبائهم " (ص. ١٢٨ ) . يتحدث الأديب زكي قنصل عن حال الصحف العربية في الأرجنتين والبرازيل ، فيقول : " حالة هذه الصحف كحالة أبناء العرب ، في هذه الديار ، فهم كما هي ، في تقلُّص وانكماش الى أن تدنو الساعة ، فلا يعود ههنا أي ناطق بالعربية " ( ص. ١٣٠ ) .
هذه ملامح من سيرة الغربة التقطناها من " أرض التيه " ، أو بلاد الغربة تكشف حقيقة هذه الأرض .
٣ - بين الشرق والغرب قضية شديدة التعقيد
نكمل البحث لنتحدَّث عن قضية مركزية تتمثل في روايات عوض شعبان التي ترى الى الاغتراب وقضاياه، و هي علاقة الشرق بالغرب ، من منظور المغترب .
تأخذ العلاقة بين الشرق والغرب ، في هذه المرحلة من تاريخنا ، منحىً جديداً ، وقد تجلَّت الرؤية الى هذه القضية في روايات عربية كثيرة رأت الى العلاقة بالغرب الأوروبي ، مثل "عصفور من الشرق" ، لتوفيق الحكيم و" موسم الهجرة الى الشمال " " للطيِّب صالح، و"الحي اللاتيني" لسهيل ادريس . ما تتميز به رؤية عوض شعبان أنها كانت رؤية الى الغرب الأميركي الجنوبي ، وقد تمثلت هذه الرؤية في روايتين هما : "الاَفاق البعيدة" و"المغيب في مونتفيديو" .
واجه كلٌّ من "جوليو " ، الشخصية الرئيسية في رواية "الاَفاق البعيدة"، وأحمد ، الشخصية الرئيسية في رواية "المغيب في مونتفيديو"، مشكلات هذه العلاقة ، ورأى اليها ، وتعامل معها ، فما هي هذه المشكلات ؟ وكيف رأى كلٌّ منهما اليها ؟ وكيف تعامل معها ؟
في ما يأتي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة .
لم يستطع أحمد ، وهو ، في منحى ما ، يكمل طريق جوليو ، الانتظام في مجتمع أميركا اللاتينية ، واختار الانتحار ، وكان جوليو قد اختار ، من قبل ، العودة الى الوطن ، على الرغم من أنه كان يرى أن ليس له مكان فيه ، فهل يؤكد هذا الاختيار بشقَّيه المقولة المعروفة : " الشرق شرق ، والغرب غرب ، ولن يلتقيا " ؟ أو أنَّ الأمر على العكس من ذلك ، اذ لامكان للعاجزين في هذا العالم ، وانما هناك خيبة لهم .
يتمثل العجز ، هنا ، بالعجز عن الاندماج بالمجتمع الغربي الغريب والحضور الفاعل فيه .
تتميز روايتا عوض شعبان ، من الروايات العربية التي رأت الى هذه القضية ، بأمرين : أولهما أن كاتبهما عاملٌ هاجر الى الغرب ، ليعمل ، ويحقق حلمه بالفردوس الموعود، وليجلب الكنز المنتظر ، وليس لتلقِّي العلم فحسب . وهذا يكسب رؤيته غنى في معرفة البلاد وأهلها وحضارتها ، لانخراطه في نسيج العيش ، فتكون معرفته بمختلف فئات الشعب ومرافق المجتمع عملية ، وثانيهما أن أميركا اللاتينية تختلف عن الغرب الأوروبي ، فهي مجتمع يتكوَّن ، مفتوح للناس جميعهم ، وانْ يكن صراع العرب مع أوروبا حادَّاً وتاريخيا : أندلساً مفقودة ، وصليبية مطرودة، واستعماراً عسكرياً قديماً واستعماراً يتخذ أشكالاً كثيرة حديثا ، فانه في أميركا اللاتينية سعي الى تحقيق الحلم في مجتمع جديد يتكون من مهاجري مختلف بلاد العالم ، هذا اضافة الى أن معاناة الأميركيين اللاتينيين تكاد تكون المعاناة نفسها التي يعانيها العرب ، وجميع شعوب بلاد العالم الثالث ، سواء في ذلك ، من حيث قمع السلطة المحلية التابعة أم من حيث هيمنة قوى العالم المركزية وسيطرتها وتوجيهها سياسات الدول التابعة ، لخدمة مصالحها . ولهذا كان أحمد ، في ساعات الصفاء ، يجد الفلاح الأميركي اللاتيني شبيها بأبيه ، غير أنه لايلبث أن يعلِّق مشاكله على مشجب صراعات التاريخ مع الاَخر الغربي والموروثات عن الاختلاف . وكان هذا يخلق في داخله أصواتا ومشاهد لاتفارقه ... الأمر الذي أدى به الى اتخاذ قرار الانتحار .
أما جوليو فسعى الى معرفة الاَخر ، وكانت مشكلته مع " المموِّلين " الذين كانوا يمثلون ، في الواقع العملي ، الطبقة المستغلِّة ، فكانوا منفاه الحقيقي ، في بلاد الغربة ، كما كانوا منفاه الحقيقي في الوطن ، فشعوره بالغربة عنهم ، في كلا المكانين هو الشعور نفسه .
يجري جوليو حوارات مع الاَخر ، فيميِّز ، من نحو أول ، بين الغربيين المستغلِّين الذين يجعلون " مسدس راعي البقر " قانونهم ، وبين الغربيين الاَخرين المستغلَّين ، وخصوصاً شعوب أميركا اللاتينية ، ويميِّز أيضاً بين وجهَي الغرب : الوجه الاستعماري والوجه الحضاري ، معتقداً بأنَّ الافادة من الحضارة الانسانية التي ينتجها الغرب في هذا الزمن ، تكسبنا القدرة على معرفة مساوئه ومقاومتها، من نحو اول ، وعلى الانتاج من نحو ثان ، وعدم البقاء في موقع الاستهلاك .
يبدي رؤيته هذه في حواراته مع الاَخر ، وخصوصاً مع صديقته " دوروتي " ، ويتوقف الحوار عندما يصل الى الموقف من " اسرائيل " ، الناشطة في تلك البلاد اعلامياً وثقافياً وسياسياً وسياحياً... ، والتي تشيع أنها دولة فتية غايتها تحضير بعض الجماعات البدائية وتطويرها في الشرق الأوسط ، فيقدِّم هو معرفة بالكيان الاستيطاني المغتصب وطناً والمشرد شعباً ، ويكشف دور الغرب في انشاء هذا الكيان الاستيطاني ، ليوظفه في خدمة مشروعه الاستعماري ، فتسأله " دوروتي " عن أسباب عجز العرب عن مقاومة المغتصب ، وعن عجزهم عن نشر حقيقته في العالم ، فيقرُّ بأن هذان العجزان ليسا هم كل مايعانيه الوطن العربي من عجز .
يجري جوليو حوارات كثيرة ، لكنه يعيش مشكلة لم يستطع حلها ، فهو متناقض ، مزدوج الشخصية ، ينفصم تنظيره عن سلوكه العملي ، وعلى الرغم من هذا تقبل عليه دوروتي مقبلة ، وهي تقول : أنت شرقي ... ساحر ، قل لي : ألست فخورا بكونك شرقيا، وليحل مشاكله في الغربة يقرر العودة الى الوطن ، ويعود ليجد الواقع أكثر بؤساً مما كان عليه عندما غادره .
هذا في رواية "الاَفاق البعيدة " ، أما في رواية "المغيب في مونتفيديو" ، فنجد شخصيات حلَّت اشكالية الاندماج ، وأقامت شراكة تنهض على أسس الايجابيات في الموقفين ، مثل طانيوس العلم . وان كان هذا مسيحياً يمكن أن يجد قرابة تربطه بالغرب ، كما يقول أحمد ،فان علي سيف الدين، مواطنه ، يسلك الطريق نفسه ، مسوِّغاً خياره بقول يستند الى الدين الاسلامي ، فيقول لأحمد : " الخلق كلهم عيال الله ، وأحبُّهم اليه أنفعهم لعياله . والله ربُّ العالمين جميعهم ، وليس ربَّ المسلمين وحدهم " . لكن أحمد بقي متردِّداً قلقاً، ففي بعض الأحيان يقول : هؤلاء الناس كلهم اخواني ماعدا اليهودي ، فهو عدوِّي ، ويسعى الى اذلاله ، من طريق اغراء زوجته بالمال و" اعتلائها " . لكنها تجد أنَّ " اعتلاءه " لها أمر مجزٍ وكثير الفائدة لها ، اذ انَّها تأخذ مقابله مالاً وفيراً ، وهنا يتأكد الاختلاف بين رؤيتين الى العالم وقضاياه . وفي كثير من الأحيان كان أحمد يتنكر لرؤيته هذه ، وقد برز تنكُّره عندما أرسل له أهله ابنة عمه ، بوصفها زوجة له . فمنذ أن وصلت ، قطع علاقته مع صديقته "دولوريس" ، الحاملة منه ، ولم يعترف ، في مابعد ، بأبوَّة ابنه الذي أنجبته ، ثم وبعد مدة تعود اليه " نوبة " الأخوَّة ، فيسعى الى لقاء "دوروليس" واحتضان ابنه ، فترفضه ، وتطرده ، ويرفض ابنه الاعتراف بأبوَّته ، ولا يتمكَّن من مواصلة العيش مع ابنة عمه الاَتية من عالم اَخر ، فيعيش في دوَّامة من الاَراء والمشاعر المتناقضة ، فيقرر الخلاص من هذا الوضع بالانتحار ، غير أنَّ الصحيفة التي نشرت خبر موته ، تحدَّثت عن غرقه في حادث تحطُّم سفينة ، وتبقى الحقيقة ضائعة بين القرار والمصادفة التي فعلت ماكان القرار يريد فعله .
لكن يبقى الانسان قادراً ، كما جاء في غير موضع من روايات عوض شعبان ، على أن يزرع بذرة الخلاص في تربة يسعى الى أن يجعلها صالحة للزَّرع .
٤ - دلالات
يمكن ، في ضوء هذه القراءة ، الخلوص الى الدلالات الاَتية :
الروائي عوض شعبان هو المغترب الذي انخرط في نسيج المجتمع ، وعرفه معرفة من عاش فيه ، مايعني أنَّ ماكتبه صدر عن تجربة حياتية شخصية عاشها فعلاً ، واختار ، من منظوره ، أحداثاً من وقائعها وأقام منها بناء روائياً ينطق برؤية المنظور الذي أُقيم منه هذا البناء الروائي .
وهذا يعني أنَّ القصَّ الذي كتبه عوض شعبان عن الغربة يمثل سيرة هذه الغربة ، المتمثلة ، ليس في سيرته فحسب ، وانما في سير الكثيرين من المغتربين وأبناء بلاد الغربة .
خرج المغترب من الغربة في وطنه ، وهي غربة يدلُّ عليها عنوان احدى قصصه " : العودة الى الجحيم " ، وحلمَ بأن يجد في بلاد الغربة " الفردوس الموعود " ، و" الكنز المنتظر " . وان كان لنا أن نضيف الى هذه الأسباب سبباً اًخر ، فهو استبداد السياسيين وفسادهم ، فأحمد ، في رواية " طاحونة الذئاب " ، لعبد المجيد زراقط ، يهاجر خوفا من انتقام " البيك " ، بعد أن منع رجاله من سرقة حصان العائلة ، وعندما يعود ثرياً ، وقد أصبح " اَمادو " ، ليستثمر أمواله في منطقته ، يطلب " البيك الجديد " أن يشاركه في الأرباح ، فيعود الى المهجر من جديد ، ويقول ل" البيك الجديد " : لن يُسرق الحصان مرة ثانية .
يفاجأ المهاجر بأن بلاد الغربة مثل بلاده ، فيها فقر ، وأكواخ صفيح ، ومستغلِّون ومستغلُّون .
يعاني في المهجر، منذ أن يباشر العيش فيه ، صعوبات كثيرة ، واهانات منها تسميته ب" التركو " ، وتبلغ هذه المعاناة درجة أن يملأ معدته بالماء ، ليكتفي من الطعام بوجبة واحدة .
كان طموحاً ، واذ يجد الفرصة لإكمال تعلُّمه ، يغتنمها ، ويتعلم عدة لغات ، ويطلع على اَدابها ، ماأتاح له أن يصبح ، في مابعد مترجماً من هذه اللغات التي أتقنها .
تمثلت المشكلة الكبرى في المموِّلين، وكان في أمس الحاجة اليهم ، ليعمل بائعاً متجولاً ، فقد كانوا جشعين ، لايعنيهم شيء سوى المال .
العلاقة بالمرأة مثلت مشكلة معقدة ، فعندما سافر توهم أن النساء في تلك البلاد مباحات ، وسيتهافتن على الشاب الشرقي الأسمر الجميل ، وفوجئ بأنَّ هذا وهم . ثم ، وبعد الانخراط في المجتمع ، روى قصصاً عن هذه العلاقة ، منها قصة المغترب الذي يترك المرأة التي أحبته، وعملت واياه لبناء أسرة ، ويعود الى وطنه ، ويتركها هي وأولادهما الى مصير مجهول . ومنها قصة المغترب الذي ينجب من صديقته التي أحبته ، ولايلبث أن يتركها ، ويرفض الاعتراف بأبوة ابنه منها ، فتحتقره ، وترفضه عندما يعود اليها ، ويرفض ابنه التعرف اليه ، و الاعتراف به...
تتمثل ، في روايات عوض شعبان ، رؤية الى قضية العلاقة بين الشرق والغرب ، وهذه القضية تمثل اشكالية كبرى ، رأى اليها كثير من الروائيين ، فأضاف شعبان رؤية متميزة تصدر عن تجربة متميزة في الغرب الاَخر : أميركا اللاتينية .
بدا واضحاً وجود ثلاثة اتجاهات في التعامل مع الغرب ، أولها المغترب المندمج ، وثانيها المغترب مزدوج الشخصية ، وثالثها المغترب غير القادر على قبول الاَخر والتوصل في مجتمعه ، فيتخذ قرار الانتحار .
يبدو أن الجيل الأول نجح في اقامة "وطن صغير" في الغربة ، لكن الأجيال التالية صارت تنتمي الى تلك البلاد .
يواجه المغترب الذي يجري حوارات مع الاَخر موقف هذا الاَخر المؤيِّد ، وان كان صديقاً وحبيبة ، للكيان الاستيطاني الذي زُرع في وطننا ، فهذا الكيان ناشط على مختلف المستويات ، مايكشف العجز العربي ، في هذا المجال أيضا ، ويسعى أحمد ، بطل رواية "المغيب في مونتفيديو" ، الى التعويض عن هذا العجز ، الى اذلال اليهودي ، من طريق " اعتلاء " امرأته ، فترحب هي بذلك ،طالما أنَّ الأمر يكسبها الوفير من المال ، فيزداد غضب أحمد على اليهودي وامرأته ، وكرهه لهما ، واحساسه بالعجز .
ملخص
حاولنا ، في هذه الدراسة ، أن نتبين تمثل الوطن والغربة ، في الرواية اللبنانية ، متخذين روايات لأملي نصرالله (١٩٣٣– ٢٠١٨ ) وعوض شعبان ( ١٩٣١-...) أنموذجاً. ويعود اختيار نصر الله وشعبان الى أنَّ كلاًّ منهما عاش تجربة الغربة وخبرها ، وتصدر كتابته عن مرجع واقعي ، وتغايره في الوقت نفسه لترى اليه من منظورها . والى أنهما أديبان لبنانيان كبيران ، أصدر كلٌّ منهما الكثير من الأعمال الروائية والقصصية
تقسم الدراسة الى قسمين يبحث أولهما في روايات لاملي نصرالله ، وثانيهما في روايات لعوض شعبان.
في القسم الأول ، بدأ البحث بتقديم معرفة بالروائية وتجربتها ، وبخصوصية القصِّ الذي كتبته ، وبالقضية الأساس الذي تتمثل فيه ، وهي قضية القرية اللبنانية التي تعاني مشكلة " الفقد ": فقد فرص العيش الكريم فيها ، فيغادرها أبناؤها الى ديار الغربة ، كأنهم طيور أيلول المغادرة أعشاشها ، بعد اصفرار شمس الخريف .واقتضت أصول البحث اعتماد النمذجة ، فاخترنا رواية " الاقلاع عكس الزمن " أنموذجاً للدراسة ؛ لأنها تروي تجربة الغربة كاملة ، فقدمنا قراءة مفصلة فيها ، انتهت الى تقديم دلالات مركزة تمثل رؤية الروائية الى القضية موضوع الدراسة .
في القسم الثاني ، من هذه الدراسة ، بدأ البحث بتعريف الروائي عوض شعبان ، وتميز تجربته ، بوصفه الشخص المغترب نفسه ، الذي يصدر عن تجربة شخصية معيشة ، فيختار وقائع من أحداث حياته ، ومن أحداث من عرفهم ، وينظمها في بناء روائي متخيل ينطق برؤية الى تجربة فريدة عاشها الشاب المثقف الساعي الى العثور على " كنز موعود " . ولما كان هذا الشاب قد عاش الحياة في الغربة وخبرها ، نرى أنه كتب سيرتها ، فتتبعنا مسار هذه السيرة ، في " في أرض التيه ، وهي اَخر مؤلفاته ، والاسم دال على حقيقة فضاء الغربة ، ثم تبينا قضية مركزية في روايتيه : " الاَفاق البعيدة " و" المغيب في مونتفيديو ، وهي قضية العلاقة بين الشرق والغرب ورؤية المغترب العربي اليها ، وهي قضية كتب عنها الكثير من الروايات ، ولكن كانت الكتابة هنا متميزة ، لأن الغرب الجديد ، الأميركي اللاتيني مختلف عن الغرب الأوروبي ، بدا واضحا أن المواقف من هذا الغرب تمثلت في ثلاثة اتجاهات : اولها المندمج وثانيها مزدوج الشخصية وثالثها العاجز عن قبول الاَخر . وكان من المشكلات التي واجهها المغترب العلاقة بالمرأة وبالكيان الاستيطاني الاسرائيلي الناشط هناك . وقد تم التفصيل في بحث هاتين المشكلتين ، وفي قضايا أخرى كثيرة تتضمنها الدراسة ٠
المصادر
هذه الدراسة نصِّيَّة ، لهذا تمثلت مصادرها بالنُّصوص الروائية ، موضوع الدراسة ، وهي روايات املي نصر الله : طيور أيلول - ١٩٦٢ ، والاقلاع عكس الزمن- ١٩٩٢ ، والجمر الغافي - ١٩٩٥ ، الصادرة عن دار نوفل في بيروت . وروايات عوض شعبان ، وهي : الاَفاق البعيدة ، الصادرة عن دار النهار ، ١٩٧٠ ، والمغيب في مونتفيديو ، الصادرة عن دار الوحدة ، ١٩٧٥ ، وفي أرض التيه ، الصادرة عن دار مجد ،١٩١٤ .
* الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص روائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت
- علامات:
- إقتصاد
