28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | نظريات النقد الأدبي البنيوي وما بعده (3)/جريدة الأيام الإلكترونية

مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | نظريات النقد الأدبي البنيوي وما بعده (3)/جريدة الأيام الإلكترونية ٩ المقالة الثالثة من سلسلة المقالات والدراسات التي تحمل العنوان : "نظريات النَّقد الأدبي البنيوي وما بعده". :
٩- "رولان بارت" (1915 – 1980) تحوُّلات أفضت إلى بدء حركة التفكيك
إن يكن التفكيك انبثق من البنيويَّة، بوصفه نقداً وتجاوزاً لها، فإنَّ "رولان بارت" هو الذي بدأ حركة هذا التَّفكيك. المعروف أنَّ بارت مرَّ بتحوُّلات كثيرة، فهو يقول، في سيرته الذَّاتيَّة، عن نفسه: "إنَّه لا يحتمل أن تتشكَّل له صورة...". وهو، في مسار تحوُّلاته، في تجاوز دائم لأفكاره، غير أنَّه، في هذا المسار، منسجم مع ما تبقَّى لديه من تأثير للوجودية التي تؤمن "بحرِّيَّة الفرد الإنساني في التَّغيُّر المستمر...، فالوجود يسبق الجوهر، حسب الصِّيغة السارترية المشهورة..."().
كتب "بارت" أوَّل كتبه المنشورة: "الكتابة في درجة الصِّفر" سنة 1953، وتتبَّع فيه أدب المرحلة الكلاسيكية في فرنسا، رابطاً الصِّلة بين العمل الأدبي والظروف التي أدَّت إلى إنتاجه، ما أدَّى إلى أن يتَّخذ "مكاناً متميِّزاً في اليسار الأدبي، رغم الأصداء السارترية التي تُسمع عنه"، وهي، كما يرى، مرحلة ظهور الكتابة البرجوازيَّة، وأخفق "في إثبات صحَّة حَشْره لكلِّ الكتَّاب الفرنسيِّين، ما بين سنة 1650 وسنة 1850، تحت تعبير الكتابة البورجوازية".
ويعتمد، في كتابه الثَّاني: "ميشيليه بقلمه هو" – 1954، التَّفسير النفسي للأدب الذي يؤدِّي إلى نتائج طيِّبة جدَّاً، ويبيِّن كيف يمكن أن يُحلَّل النَّص نفسيَّاً().
استخدم "بارت" مصطلح التعمية، وهو مصطلح ماركسي، يعني، عنده، "قوَّة شرِّيرة تآمريَّة غرضها اللاأخلاقي هو إعطاء الظواهر التَّاريخية، أو الثقافيَّة، مظهر الظَّواهر الطبيعيَّة، والرَّدُّ الوحيد على التَّعمية، كما يرى، هو فضحها. وشارك "برتولد بريخت" الاعتقاد بوجود حاجة معاصرة لنوع من المسرح "يفسِّر" المجتمع، ولا يكتفي بتمثيله، وليس هناك ما هو أقرب إلى "بريخت" من مقالته الأولى في كتابه: "أساطير"، وهو الكتاب المخصَّص للكشف عن الحجب الثقافيَّة().
وهكذا، كما يبدو، كان لعدَّة منظورات نقديَّة تأثير في كتاباته، الأولى منها: المنظور الوجودي والاجتماعي والماركسي والنَّفسي...
تتميَّز مؤلَّفاته، وهي خمسة عشر مؤلَّفاً، بأنَّها متنوِّعة، تبحث في العديد من حقول المعرفة، ويتنقَّل فيها من نظريَّة إلى أخرى، من البنيويَّة إلى ما بعدها...، ومن الكتابة/ الأسلوب، كما في كتابه: "الكتابة في درجة الصِّفر"() إلى الكتابة/ النَّسيج... وفي مسار انعطافاته يبقى لديه اهتمام ثابت هو اللُّغة والأدب.
الجديد، عند بارت، في مرحلة ما بعد البنيويَّة، هي الفكرة التي ترى أنَّ القرَّاء أحرار في فتح العملية الدلالية للنَّص وإغلاقها من دون أيَّ حسبانٍ لثبات المدلول، وعلى نحو يغدو معه القرَّاء أحراراً في أن ينالوا لذَّتهم من النَّص، وأن يتابعوا – حين يشاؤون – تقلُّبات المدلول وهو ينساب وينزلق مراوغاً قبضة الدَّالّ. يمكن أن نركَّز عناصر نظريَّة "بارت"، في "ما بعد البنيويَّة"، في ما يأتي:
ليس المؤلِّف منشئ النَّص. 2- ليس المرجع لتفسيره، ولا ينطق بقصده. 3- المؤلِّف هو الموقع الذي يحدث عنده تشكُّل النص. 4- القارئ يقارب النَّص من أيِّ اتجاه كان. 5- يمكن أن يفسَّر النَّص/ الدَّال من دون أيِّ اهتمام بأي معنى مسبق/مقصود/مدلول. 6- يشعر القارئ بمتعة عادية وبلذَّةٍ غير عاديَّة لدى قراءته/ إنتاجه للنَّص. في ما يأتي تفصيل لهذه الأفكار. عُرفت رؤية "بارت" إلى المؤلِّف بـ "موت المؤلِّف"، وقد نشر مقالته "موت المؤلِّف"، لأوَّل مرَّة، سنة 1968. في قراءة لرواية "بلزاك" "سرازين" القصيرة، يبدأ بتساؤل عن قائل جملة وصفية تبدأ بها الرِّواية، ويقول: "نحن لا نعرف بالضَّبط من المتحدِّث، وسوف لن نعرف، لأنَّ الكتابة تحطيم لكلِّ صوت وكل بداية وكل أصل"، ما يعني أن اللُّغة هي التي تتحدَّث لا المؤلِّف، وهذا يفكِّك/ يقوِّض مركزيَّة الذَّات المبدعة، ويفتح النَّص. ومن نحو آخر، يرى بارت أنَّه لا يوجد نصٌّ أصيل، وكل نصٍّ هو نتاج تسرُّب نصوص كثيرة وتشابكها، وعى الكاتب ذلك أم لم يعه، لتشكِّل النَّص الجديد، وبهذا التَّناص يفقد كلُّ نصّ صفة "العمل البدء، الأوَّل"، وهذا مظهر آخر لموت المؤلِّف.
يقول بارت: "النَّصُّ نسيج من الإحالات والاقتباسات المستقاة من بؤر ثقافية لا حصر لها"، وينهي كتابه بقوله: "مولد القارئ يجب أن يكون على حساب موت المؤلِّف". وهنا يلتقي دريدا مع بارت عندما قال في ما بعد: "لا شيء خارج النَّص".
وهكذا، يمكن القول: إنَّ"موت المؤلِّف" يعني، من نحوٍ أوَّل، أنَّ النَّصَّ يستقلُّ عن المؤلِّف منذ أن يصبح المؤلَّف بين يَدَيْ القارئ، ومن نحوٍ ثانٍ، "أنَّ اللُّغة "هي التي تتكلَّم وليس المؤلِّف"، واللُّغة تراث مخزون/ نبعٌ تنبجس منه لغة المؤلِّف، فتحضر فيها لغات الأسلاف والمعاصرين، ومن نحوٍ ثالث، أنَّ النَّص لا ينطق بدلالة نهائية هي قصد المؤلِّف، وإنَّما يُنطقه القارئ بدلالة يتبيَّنها من منظوره، ما يعني أنَّ باب دلالات النَّص لا يُغلق وإنَّما يبقى مفتوحاً، فتتعدَّد القراءات بتعدُّد القرَّاء. وإذاً؛ فإذ يموت المؤلِّف، يولد القارئ، فيصبح منتجاً وليس مستهلكاً، وعملية الإنتاج هذه تولِّد المتعة/ اللذَّة(). ومن هنا جاء مصطلح القراءة، بوصفها إنتاجاً خاصَّاً ذاتياً للنَّص مفتوحاً يتبيَّن مدلولات الدَّال التي غدت عديدة. تعني مقولة "موت المؤلِّف"، إذاً، أنَّ صلة المؤلِّف بنصِّه تنقطع بعد أن يصبح هذا النَّص في التَّداول، فلا يحقُّ له أن يتحدَّث عن قَصْده ونواياه، ولا يحقُّ للمتلقِّي أن يبحث عن دلالة ما يقرأه في سيرة حياة مؤلِّفه.
ثمَّ، عندما تتحرَّر الدَّوال وتكثر المدلولات، وتتحوَّل المدلولات إلى دوالّ تكثر مدلولاتها، تنتشر الدلالة، ويكون لكلِّ قارئٍ حصيف التقاط ما يتيحه له منظوره، فيقدِّم قراءته للنَّص، وصنيعه هذا هو إنتاج للنَّص لا استهلاك له بمعزل عن مؤلِّفه. من هنا تبدأ مقولة "موت المؤلِّف" التي ترفض القول: إنَّ المؤلِّف هو أصل النَّص الأدبي، وترى أن هذا النَّص مستقلٌ ومكتفٍ بنفسه، هذا من نحوٍ أوَّل، ومن نحوٍ ثانٍ فإن " المؤلِّف عارٍ تماماً من كلِّ مكانة ميتافيزيقية، ويتحوَّل إلى مجرَّد ساحة (مفرق طريق) تلتقي وتعيد الالتقاء فيها اللغة التي هي مخزون لا نهائي من حالات التكرار والأصداء والاقتباسات والإشارات، على نحو يغدو معه القارئ حرَّاً في أن يدخل النَّص من أي اتجاه يشاء"().
نظريَّة "موت المؤلِّف" ليست جديدة، إذ يمكن للباحث، في تاريخ النَّقد الأدبي، أن يجد حضوراً لها لدى "النَّقد الجديد" و"البنيوييِّن"، ما جعل "ميجان الرويلي" يشير إلى ذلك بقوله: إنَّ المؤلِّف تعرَّض إلى "محاولات اغتيال أولى"() قبل أن يعلن بارت موته، وما جعل عبد العزيز حمودة يتحدَّث ساخراً عن موت رسمي بعد إشاعاتٍ عن ذلك ردَّدها البنيويُّون والنَّقاد الجدد().
أمَّا رؤية "بارت" إلى "لذَّة النَّص" فيمكن تبيُّنها كما يأتي: عرَّف "بارت" النَّص بأنَّه "نسيج من الاقتباسات والإحالات والأصداء من اللغات الثقافية السَّابقة، أو المعاصرة، التي تخترقه بكامله".
ورأى أنَّه كائنٌّ مستقلٌّ عن كاتبه وسياقه. والقارئ؛ إذ يتلقَّاه، في غياب أي عامل/ مؤثِّر خارجي، يعمل على إيجاد تأويل له، في عمليَّة تفكيك ممتعة. تنجم المتعة من قيام القارئ بإنتاج معنى النَّص فيغدو بذلك منتجاً وليس مستهلكاً له. وإذ بتكرَّر تلقِّي النَّص يتكرَّر إنتاجه، في عمليَّات لا تنتهي. لذَّة القراءة، إذاً، كما تحدَّث عنها "رولان بارت"، تنجم عن القراءة التي تتبيَّن جماليَّة النَّص، وليس القراءة التي تكتفي بتبيُّن المعنى اللغوي المباشر، أي هي لذَّة القراءة الشعرية/ السيميائية للنَّص، وبها يصبح القارئ منتجاً للنَّص، ولا يفعل ذلك إلاَّ إذ تحرَّر النَّصُّ من المؤلِّف، وغدا نظاماً من العلامات ينطق بدلالة، أي دالاًّ ينطق بمدلول، كما ترى البنيويَّة. ولكنَّ "بارت" تحوَّل عن البنيويَّة، ورأى أنَّ الدَّال ينطق ليس بمدلول واحد، وإنَّما بمدلولات: حاضرة وغائبة، وكلٌّ منها ينطق بمدلولات؛ وإذ يتبيَّن القارئ هذا الفيض من المدلولات الذي ينطق به النَّظام اللغوي الأدبي يشعر بمتعة/ لذَّة القراءة، أو بجماليَّتها وشعريَّتها.
يميِّز "بارت" بين نوعين من استجابة القارئ للنَّص: أوَّلهما المتعة = plaisir، وثانيهما اللذَّة = jouissance، وملابساتها، بالفرنسيَّة، جنسيَّة. المتعة شعور عاديٌّ، يشعر به المرء لدى تحقيقه أيَّ إنجاز. أما اللذة فشعور مختلف يشعر به المتلَّقي لدى إنجازه إنتاج النَّص وإبداعه، فتحصل لذَّةٌ كأنَّها لذَّة الوصال().
وقدَّم بارت، في كتابه "s/z" قراءة تطبيقيَّة هي قراءة لرواية "بلزاك"() القصيرة "سارازين" وقسَّمها إلى خمسمئة وإحدى وستين وحدة قراءة، وقرأ هذه الوحدات مستخدماً خمس شيفرات: تأويلية، ودلالية، ورمزية، وأحداثية، وثقافية، وانتهى إلى القول: "هذا النَّص المثال هو عالم كامل من الدَّوال، وليس بنية من المدلولات. وهو نصٌّ ليس له بداية. فنحن نلجه من عدَّة مداخل، لا يحقٌّ لواحد منها أن يزعم، عن ثقةٍ، أنَّه المدخل الرئيسي، إذ إنَّ الشِّفرات التي يبعثها هذا النَّص تمتد إلى أقصى ما تصل إليه العين". "ومثلما فتَّت "بارت" قصَّة "سارازين" تفتيتاً لا تأتلف بعده، كذلك صنع بالمؤلِّف؛ فالهدف الأكبر لكتاب s/z هو أن ينزع من النَّص صفة الأصالة، أي أن يبيِّن أنَّه غزل لعدد من الأصوات، وليس صوت شخص واحد هو بلزاك"().
وهكذا كما يبدو، عرفت حياة "بارت" النَّقديَّة عدَّة تحوُّلات، لكنَّه بقي يرى أن/ الأدب "رسالة عن دلالة الأشياء، وليس عن معناها". والمقصود بالدَّلالة هو فاعلية النَّص الجماليَّة/ الشعريَّة الناطقة الموحية المشعَّة، المستدعية من الغياب...، فلغة الأدب ليست شفَّافة، وإنَّما هي لغة تنطق بالوعي واللاَّوعي، وتتحرَّر فيها الدَّوال من ثبات المدلول الواحد().
* الأستاذ الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية