مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | نظريات النقد الأدبي البنيوي 1 / جريدة الأيام الإلكترونية
الأستاذ الدكتور عبد المجيد زراقط*:
ما سوف يتم بحثه في هذه الدراسة
موضوع هذه الدِّراسة هو النقد الأدبي البنيوي ومابعده ، ويتمُّ البحث فيها في تعريف "ما بعد البنيويَّة" وعلاقتها بالبنيويَّة ، وتقديم معرفة موجزة بهذه الأخيرة، والتعرُّف إلى جذور "ما بعد البنيويَّة" الفلسفيَّة . ثم يتمُّ تتبُّع مسار تكوُّن هذه النَّظريات ، بالتعرُّف إلى إنجازات كلٍّ من : ميشيل فوكو ونظريَّة الخطاب، و"جان لاكان" ونظرية اللاَّوعي واللغة ، ونظريَّه التلقِّي وتحوُّلات "رولان بارت" المفضية إلى بدء "التفكيكية" ، و"جوليا كريستيفا" ، ونظريَّة التَّناص، و"جاك دريدا" و"النظرية التفكيكية" وتأثيره في تشكُّل "تفكيكية" أميركية ، والنَّقد النَّسوي .
يفضي تتبُّع هذا المسار إلى معرفة النَّقد الذي وُجِّه إلى هذه النَّظريَّات. كما يقتضي البحث أن نتعرَّف إلى استقبال هذه النظريات في النَّقد العربي المعاصر، وإلى ما عرفه النَّقد العربي القديم من مفاهيم هذه النَّظريات، وإن كان لم يعرف مصطلحاتها، فلكلِّ نقدٍ سياقه التَّاريخي ونظرته المعرفيَّة. مصطلح مابعد البنيوية ومفهومه
مصطلح "ما بعد البنيويَّة" = Post-structuralisme، قد يلتبس بمصطلح "ما بعد الحداثة" Post-modernisme، ويغدو التمييز بينهما "من الصُّعوبة بمكان"، لكن، بشيءٍ من التَّأمُّل، يبدو الفرق واضحاً، فالبنيويَّة ليست الحداثة، وإنَّما هي مكوِّن من مكوِّناتها، ما يعني أن "ما بعد البنيويَّة" هو مكوِّن من مكوِّنات ما بعد الحداثة ، محوره الأساس القراءة ، قراءة النَّص والخطاب. "ما بعد البنيويَّة" تسمية أُطلقت على أعمال مفكِّرين فرنسيِّين، في العقدين السَّادس والسَّابع من القرن العشرين.
في دلالة مصطلح "ما بعد" يمكن القول: "بعد" ظرف يُفهم معناه، بالإضافة إلى ما يليه، وهو مقابل "قبل" وخلاف "قرب". وهذا يعني أنَّه يلي زمنيَّاً ما يضاف إليه، منطلقاً منه، ليكون خلافه، من طريق تجاوزه وإضافة إليه ما فاته. و"ما بعد البنيويَّة" مصطلح دالٌّ على حركة فلسفيَّة نقديَّة جاءت بعد "البنيويَّة"، وانطلقت منها، وتجاوزتها، فأضافت إليها، وغدت نظريَّاتٍ تجمعها مقولات مشتركة.
تدلُّ "بعد – Post"، هنا، على أنَّ هذه النَّظريات لا تحلُّ محلّ البنيويَّة، بوصفها نظريات أحدث زمنياً، وإنَّما تدل على أنها تعتمد على البنيويَّة، بوصفها نظام تحليل سابق().
بين البنيويَّة وما بعدها
يقول "رامان سلدن": "تمخَّضت البنيويَّة عمَّا بعد البنيويَّة، في أواخر الستِّينيات على وجه التَّقريب . ويرى بعض المعلِّقين أنَّ "ما بعد البنيويَّة" كانت بمثابة تطوُّر لجوانب مُتضمَّنة في البنيويَّة نفسها على نحوٍ يمكن معه القول: إنَّ "ما بعد البنيويَّة" ليست سوى ثمرة لهذه الجوانب المتضمَّنة"().
ويرى "يوسف وغليسي" أنَّ "ما بعد البنيويَّة" التي ظهرت في منتصف ستينيَّات القرن العشرين " ليست قطيعة في المسار البنيوي، وإنما هي، في أقصى تقدير، نقطة انعطاف – بالمفهوم الرِّياضي – في منحى الدَّالة البنيويَّة، تعبِّر عن مراجعة البنيويَّة لنفسها وتأمّلها في مسار تطورها"(). وإن تكن "التفكيكية" "Deconstruction" أبرز نظريات "ما بعد البنيويَّة، فإنَّنا نعود إلى مؤسِّس هذه الحركة لنعرف رأيه في هذا الشأن. يتحدَّث "جاك دريدا" (1930 – 2004) عن هذه المسألة، فيقول: "إن التَّفكيك حركة بنيانية وضد بنيانية في الآن نفسه. فنحن نفكِّك في آن معاً البنية التي لا تفسِّر شيئاً، فهي ليست مركزاً ولا مبدأً، ولا قوَّةً، فالتفكيك هو طريقة حصر أو تحليل يذهب أبعد من القرار النَّقدي"().
ويقول، في موضع آخر: " كان التفكيك... حركة بنيويَّة، أو بأية حال حركة تضطلع بضرورة معيَّنة للإشكاليَّة البنيويَّة. ولكنَّه، أيضاً، حركة ضدّ بنيويَّة، وهو يدين بجانب من نجاحة لهذا اللَّبس. كان الأمر يتعلَّق بحلّ وفكّ ونزع جميع رواسب البنيات، سواء كانت لغويَّة أم تمركزيَّة منطقيَّة أم تمركزيَّة صواتيَّة"().
إن يكن الأمر هكذا، فإنَّنا نرى حاجة إلى تقديم معرفة موجزة بالبنيويَّة.
البنيويَّة والتحليل البنيوي
اتخذت "البنيويَّة" البنية موضوعاً لها، ورأت أنَّها نظام من العلامات مستقلٌّ عن كلِّ ما هو خارجي ومرجعي، وأنَّ النصَّ الأدبي بنية لغوَّية مستقلة في غنى عن كلِّ ما هو خارجها.
وفي دراساتها اللغويَّة، رأت البنيويَّة أنَّ اللُّغة " نظام متزامن من العلاقات"، والمفهوم المركزي فيها هو "العلامة"، المؤلَّفة من الدَّال والمدلول . وهي تفترض مركزاً من نوعٍ ما للمعنى، وهذا المركز يحكم البنية. والبنية هي نظام كلِّي، تنتظم فيه عناصر تُدرك وفاقاً لمبدأ الأوَّليَّة المطلقة للكلِّ على الأجزاء. لهذا النِّظام قوانينه الخاصَّة، المُحايثة، من حيث هو نظام يتَّصف بالوحدة الدَّاخليَّة والانتظام الذاتي، على نحو يفضي فيه أيُّ تغيير في العلاقات إلى تغيير النِّظام نفسه، وعلى نحو ينطوي معه المجموع الكلِّي للعلاقات على دلالة يغدو معها النِّظام دالاًّ على معنى كلِّي(). يتمثَّل النَّقد الأدبي البنيوي بدراسة النَّص الأدبي، بوصفه بنيةً وفاقاً لهذا المفهوم، فيحلَّله، أو يفكِّكه، إلى عناصره ويصفها، فيكتشفها، ويتوصَّل من طريق تبيُّن هذا الوصف والعلاقات القائمة بينها الخصائص اللغوية، ثم يعيد تركيب هذه العناصر مرَّة أخرى، ويتبيَّن الدلالة الكلِّية التي تنطق بها الخصائص اللغويَّة، بوصفها "دوالاًّ".
وهذا يعني أنَّ هذا النَّقد يصف "الدَّال" ليتبيَّن سرَّ المدلول، ووصف الدَّال يشمل وصف العناصر المفضي إلى وصف النَّص، بوصفه علامةً تتكوَّن من مكوِّنين لا ينفصلان، "كأنَّهما وجها العملة الواحدة" هما الدَّال والمدلول، والدَّال هو "الصُّورة المنطوقة أو المكتوبة"، والمدلول هو "الصُّورة الذِّهنيَّة، أي المستثار الدلالي للدَّال.
من وجهة نظر "فرديناند دي سوسير" العلاقة بين الدَّال والمدلول اعتباطيَّة، ولا علاقة مباشرة للَّغة بالأشياء الخارجيَّة، فالمدلول هو "صورة ذهنيَّة تنتمي إلى العلامة اللغويَّة، وليس إلى الشيء الواقعي الموجود خارج اللغة". انبثاق "ما بعد البنيويَّة"
لاحظ "فردناند سوسير" ، وهو " أبو اللغويات الحديثة"، عدم وجود صلة ضرورية بين الدَّال والمدلول، فأحياناً تؤدِّي كلمة واحدة (أو دالٌّ واحد)، في لغة من اللُّغات، مفهومين (أو مدلولين) مختلفين، مثل "mouton" بالفرنسيَّة التي تدلُّ على "الضَّأن" و" لحم الضَّأن".
وقد انبثق فكر "ما بعد البنيويَّة" من هذا الاختلاف، ورأى "أنَّ النسق اللُّغوي سلسلة اختلافات لأصوات تتضافر مع سلسلة اختلافات لأفكار"(). كما أن هذا الفكر "ما بعد البنيوي" عدَّ كل قراءة للنَّص بمنزلة تفسير جديد له، وقرَّر استحالة الوصول إلى معنى نهائي وكامل لأيِّ نصٍّ، والتَّحرُّر من عدِّه كائناً مغلقاً ومستقلاًّ بعالمه().
وإذ يتم فكُّ الدَّال عن المدلول الواحد تمضي عمليَّة تعدُّد مدلولات الدَّال، وتحوُّل كل مدلول إلى دالٍّ تتعدَّد مدلولاته " إلى نوع من الحرباء التي تبدِّل ألوانها مع كلِّ سياق جديد " . وينصبُّ قدر كبير من جهد حركة ما بعد البنيويَّة على تتبُّع هذا التَّقلُّب الملحاح لنشاط الدَّال؛ وذلك، في تشكيله مع غيره من الدَّوالّ سلاسل وتيَّارات متقاطعة من المعنى، يتأبَّى معها على المتطلَّبات المنظَّمة للمدلول"().
وهكذا يبحث منظِّرو "ما بعد البنيويَّة" في قضايا النَّقد الأدبي والفلسفة ، ويرى هؤلاء أنَّ اللُّغة ليست أداة واضحة ومباشرة لإيصال الحقيقة، وإنما هي "شيفرة" يُحصَّل معناها من طريق التباين بين أجزائها، وليس من طريق ارتباطها بالعالم الخارجي.
جذور فكريَّة لـ "ما بعد البنيويَّة"
ولمَّا كانت "ما بعد البنيويَّة" نظريات عدَّة مفكرِّين، كان من المنهجي أن نتحدَّث عن إنجازات هؤلاء المفكِّرين، الذين كان كلٌّ منهم صاحب نظريَّة أطلقها، في سياقٍ من التطوُّر، أسهمت فيه كلُّ نظريَّة بدور، في هذا المسار الفكري الذي تلا البنيويَّة، وانبثق منها لينقدها ويتجاوزها. ونمهِّد لذلك بتقديم معرفة بجذور فكريَّة لـ "نظريَّات ما بعد البنيويَّة".
تأثَّر ما بعد البنيويين بفلسفة "نيتشه" و"هيدغر"، التي رأت أنَّ العالم الفكري، في ما بعد عصر النَّهضة، فقد "المركز"، ففي العالم "ما بعد البنيوي" لا توجد مركزية ثابتة ومطلقة، وهذا يعطي الإنسان حرِّية خلق مراكز وتغييرها باستمرار، إضافة إلى أنه لا توجد حقائق أكيدة وثابتة، وإنَّما توجد تفسيرات وتأويلات.
توجد، في مسار الفلسفة الغربيَّة، نظريات تتجلَّى فيها مظاهر نقد لمركزيَّة العقل المجرَّد، بوصفه العمود الفقري للفلسفة الغربيَّة طوال خمسة وعشرين قرناً، منها:
نظريَّة الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانت" (1724 – 1804) في كتابه: "نقد العقل المجرَّد" – 1781 التي بيَّن فيها "محدودية العقل البشري"، وانتقد الميتافيزيقيا التقليديَّة ونظريَّة المعرفة الكلاسيكيَّة، ورأى أنَّ أسئلة الميتافيزيقيا الأساسية لا يستطيع العقل الإنساني الإجابة عنها، مثل: "هل العالم أزلي أو له مسبِّب ؟ "، وإنَّما يستطيع الإجابة عن أسئلة العلوم لأنها تخضع لقوانينه.
نظريَّة الفيلسوف الألماني "فردريك نيتشه" (1844 – 1900)، فكما هو معروف، فإن العنصر الأساس في هذه النظريَّة هو "إرادة القوَّة"، بوصفها الأساس لفهم السُّلوك البَّشري ، الذي يحقق السَّعادة إن حقَّق هذه الإرادة التي تقرِّر الحقيقة، ما يعني تقويضاً لمركزيَّة العقل، إذ أصبحت عملياته عمليات إقناع يتولَّاها الأقوى. وغدت قدرته على معرفة الحقيقة في قبضة هذا الأقوى، كما يعني أنَّ سعي الإنسان ليس هدفه معرفة الحقيقة، وإنما تحقيق إرادة القوَّة، القادرة على توظيف المعرفة، في الوصول إلى سعادة الإنسان الأقوى.
نظرية الفيلسوف الألماني "مارتن هيدغر" (1889 – 1976)، وتقوم على ثنائيَّة قوامها فكرتان مركزيَّتان هما: الوجود والعدم، يشعر الإنسان، وهو ضمن هذه الثُّنائيَّة، بالقلق، إذ يعلم أنَّ مصيره هو العدم = الموت. وهذا القلق الوجودي هو الذي يجعل الإنسان يبدأ رحلة البحث عن وجوده وجدوى عيشه، ما يعني أنَّ الإنسان يعطي الحياة معناها، ويصنع نفسه بنفسه، وهذا يفيد أنَّ أهم إنجازات "هيدغر" يتمثل في إبعاد الفلسفة الغربيَّة عن الأسئلة الميتافيزيقية الغيبيَّة().
وصف "دريدا" "هيدغر" بأنَّه "أوَّل من قرع نواقيس الميتافيزيقيا"، فخلَّص الفلسفة من "مَرْكزة اللوغوس" logocentrisme، ما جعل إنجازه ممهِّداً لفلسفة "الغياب" التي تقرِّر حضور الدَّال وغياب المدلول، بدلاً من حضور الدَّال والمدلول وتطابقهما().
وعن تأثير الماركسيَّة رأى "ميشيل رايان"، في كتابه: "الماركسيَّة والتَّفكيك"، أن "كلا المذهبين [التفكيكيَّة والماركسيَّة الحديثة] قد شجَّع التعدُّديَّة بدلاً من الوحدة التسلُّطيَّة، والنَّقد بدلاً من الطَّاعة، والاختلاف بدلاً من الاتحاد، والنُّزوع العام إلى اتخاذ موقف متشكِّك إزاء الأنساق الكلِّية أو المطلقة"(). وقد قرأ "ألتوسير" النَّص الماركسي، ورأى أنَّه ليس مرآة تعكس آراء صاحبه، وإنَّما هو ملك القارئ الذي يتبيَّن دلالاته، وهذا ما فعله هو، إذ تبيَّن ما لم يفصح ماركس عنه نتيجة هيمنة حضور الايديولوجيَّة عليه().
يتبع
* الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية
- علامات:
- إقتصاد
