الدكتورة سلام شمس الدين : التباعد الرمضاني، من الفقد إلى الكسب
الباحثة الدكتورة سلام شمس الدين
اعتاد المسلمون في كل بقاع الأرض استقبال شهر رمضان المبارك من كل عام، بشوق وفرح، محتفظين خلاله بعادات وتقاليد لم تتغيرمع مرور الزمن. تبدأ بالاستعداد له في أواخر شهر شعبان، حيث تمتلئ الساحات باليافطات ترحيباً، ويغزو الناس الأسواق لشراء أصناف متنوعة من الأطعمة الرمضانية، وتتوالى المعايدات بين الأحبة والأصدقاء مغمورة بمشاعرالحب والألفة راجين منه قبول الأعمال.
أما في عامنا هذا، نستقبل شهر رمضان بشكل حزين وكئيب، نتيجة أزمة كورونا التي أرخت بظلالها علينا ووضعت العالم بأسره أمام صعوبة الحرية في التنقل واللقاء مع الأهل والأصدقاء، التزاماً بشروط التعبئة العامة، وحفاظاً على سلامتنا وسلامة الآخرين. الأمر الذي جعلنا نشهد تغيرات جذرية في وتيرة حياتنا اليومية وأنماطنا السلوكية، حيث تقلصت مساحة التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه، وانعكس ذلك على اتجاهاتنا القيمية، والتحول نحو نمط التواصل والاتصال الرقمي عبر شبكات التواصل الاجتماعي. مما يعني أننا أمام مشهد غريب وتحولات غير مسبوقة في طقوس شهر رمضان. فالمسلمون اللبنانيون- كما في العالم الاسلامي أجمع- اعتادوا على الاجتماع حول الموائد الرمضانية، واحتساء الشاي وتناول الحلويات وإقامة الصلوات الجماعية والأدعية الرمضانية في البيوت والمساجد، والإلتقاء بالأهل والأصدقاء في الأماكن العامة.
لقد غيرت أزمة كورونا من رونق شهر رمضان، وأفرغته من أهم مميزاته وخصوصياته، فأتى مكللاً بفكرة التباعد الاجتماعي، هذا التباعد الذي شكل بدوره نوعاً من العزلة الاجتماعية، وجعل الناس متخوفين من الضيوف والزوار، وفرض مشاعر القلق واليأس في نفوس المواطنين نتيجة القيود والاغلاقات، والتي معها تضررت مصالح الناس وشحت من خلالها أرزاقهم. فنحن كمسلمين نميل إلى التجمعات الاجتماعية بكثافة في هذا الشهرالمبارك، ولدينا ارتباطات متينة على مستوى الأسرة والأصدقاء ونعتبرها علاقات حياتية مهمة. وتعد صلة الرحم والتواصل بين الأسر الصغيرة والأسر الممتدة من أهم معايير ثقافتنا وتعاليمنا الاسلامية. ومن المعروف سوسيولوجياً أن الإنسان مفطور على الألفة والاجتماع بالناس، وأن المجتمع مرتبط بالتفاعلات الاجتماعية بين الأفراد التي هي أساس الحياة وشرط من شروط الوجود الانساني.
ونحن على مسافة قريبة من عيد الفطر السعيد، والذي يتوقع فيه استمرار الحجر الصحي والتباعد القسري، ليطبق عليه قول الشاعر المتنبي: " عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ !!". هذا التباعد فرض علينا تحدياً نوعياً جديداً، حرمنا من المشاركة الجماعية وجعلنا نعيش على هامش المجتمع في مواجهة التقاليد الاجتماعية والثوابت الدينية الراسخة، وهذا بالطبع يتماشى مع توجهات العولمة التي تسعى إلى تغيير نمط الروابط العائلية وضرب القيم الدينية ودفعها إلى التفكك والانهيار.
قد يتساءل البعض منا، هل يؤدي بنا هذا الأمر إلى إلغاء عاداتنا الاجتماعية والتأسيس لأخرى غيرها، تختلف عنها في الجوهر والشكل والمضمون على مستوى العلاقات الاجتماعية والتواصل مع الأرحام ؟
نجيب: لا شك أن هذه الأزمة تجذرت في عقولنا، إلا أنها لم تغير من عاداتنا وتقاليدنا، فلا يزال التواصل مع بعضنا البعض موجوداً من خلال وسائط التواصل الاجتماعي والهواتف والاتصال البصري الذي يخفف من الوحدة والعزلة الاجتماعية، إلا أنه بطبيعة الحال لا يمكن اعتباره بديلاً عن اللمسة الانسانية، مثل السلام باليد والمعانقة والتقبيل والحضور الجسدي المفعم بالطاقة والحميمية. نعم، لقد لعب التباعد الاجتماعي دوراً كبيراً في تغيير أشكال التواصل فيما بيننا، إلا أنه لم يلغ الحب والانتماء العائلي والمجتمعي وحتى الوطني، فالحياة المنغلقة لا تليق بالشعب اللبناني بشتى أطيافه ومذاهبه ومناطقه، والاجتماع سنّة البشرية وضمان وجودها. وكما يقول المثل الشعبي: "الجنة بلا ناس ما بتنداس".
إننا اليوم أمام اختبار حقيقي، واللبنانيون بشكل عام، سيعبرون هذه المحنة بسلام ولديهم القدرة على التكيف مع الأوضاع الراهنة والاستجابة للتغيرات وتحدي الأزمات. ولكن السؤال هنا كيف يمكننا تحويل الأزمة الراهنة المرتبطة بالتباعد الاجتماعي القسري إلى فرص؟ وما هي المكاسب التي يمكن أن ننعم بها في ظل هذا الشهر المبارك ؟
هذا التساؤل يوقظ فينا الكثير من الأفكار المفعمة بالطاقة، والتي تجعلنا ننظر إلى التباعد الاجتماعي على أنه عمل سخي نستفيد منه في أعمال مفيدة فيها خير لذواتنا وذوات من حولنا. هذا التحول يشكل لنا فرصة لأن نترجم تلك النقمة إلى نعمة من خلال دعوة النفس للصفاء الروحي وتطهير قلوبنا واصلاح ألسنتنا والتخلص من المعاصي وإصلاح سرائرنا وإحياء الهمة الإيمانية والعبادية والقيمية كي لا نهلك دونها. فرصة للانتقال من الغفلة إلى اليقظة ومن الكسل إلى العمل ومن البخل إلى العطاء ومن الانفلات إلى الانضباط. فرصة لاكتشاف شخصية أبنائنا بوجودنا المادي معهم وتنظيم العائلة وتوجيهها وإرشادها لما فيه مصلحتها ومصلحة الآخرين. فرصة لإعادة ترميم العلاقات الأسرية وما أصابها من تصدعات والعمل على إعادة توزيع الأدوار والمسؤوليات وتوطيد العلاقات واستعادة الدفء العائلي واحياء الروح القيمية بعد أن افتقدناها في ظل ظروف العمل اليومية الضاغطة والقاهرة. فرصة للتفرد بالذات وشحذ الطاقات من خلال منح أنفسنا قسطا من الراحة والتأمل والاسترخاء بعد أن بتنا في صراع مع الذات نتيجة ازدحام المسؤوليات. ولنعترف جميعاً، أن في اعتزال الناس نافذة نحو ذواتنا، لنتعرف إلى أنفسنا ونراجع معاملاتنا ونتحرر من أخطائنا، ونقوّي نقاط ضعفنا، ونعزّز نقاط قوتنا، ونوسّع حدود تفكيرنا، ليشمل الآخرين، ونفعّل قيم الاعتماد المتبادل وآليات الاتصال الانساني التي تقوم على فلسفة التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي. فالهدوء والمرونة النفسية والإرادة الصلبة قوّة دافعة نحو التكيّف وإعادة بناء الذات وإدارة الأولويات لما فيه خير لنا وللآخرين من حولنا. وأخيراً، نتضرع إلى الله العليّ القدير في هذا الشهر الفضيل، أن تزول هذه الغمّة عن الأمة جمعاء، وأن نعيد للحياة ألقها وجمالها بالتقارب والتحابب. وكما يقول رسولنا الكريم(ص): صوموا تصحوا، أقول لكم: تفاءلوا تصحوا، وما بعد العسر إلا كل اليسر باذن الله.
الباحثة الإجتماعية
الدكتورة سلام شمس الدين
المصدر : مقال أرسلته الدكتورة سلام شمس الدين إلى جريدة الأيام الإلكترونية
- علامات:
- مجتمع