جيرار ديب ،الفوضى الخلاقة تطل برأسها
بقلم : د. جيرار ديب
طرح زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي، في عهد الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، نظرية "الفوضى الخلاقة" لتقسيم الشرق الأوسط في بداية ثمانينات القرن الماضي . قرأنا هذا مع بداية ما يعرف بالربيع العربي، الثورات العربية. لكن غير المتوقع كان، أن تطرح هذه النظرية لتطبيقها في لبنان، وعلى يدّ البعض من اللبنانيين، وما يحصل في الشارع قد يكون مؤشرًا. تشبه الفوضى الخلاقة حالة العلاج النفسي إذ يذهب مارتن كروزرز، وهو مؤسس مذهب جديد في علم العلاج النفسي: إن الفوضى أحد العوامل الهامة في التدريب والعلاج النفسيَين، فعند الوصول بالنفس إلى حالة الفوضى يفقد الإنسان جميع ضوابطه وقوانينه، وعندها من الممكن أن تحدث المعجزات... فيصبح قادرًا على خلق هوية جديدة، بقيم مبتكرة ومفاهيم حديثة، تساعده على تطوير البيئة الحيطة به.
لكن يبقى السؤال من الذي يسعى لتغيير هوية لبنان؟ ولصالح من؟ هل، حزب الله سيستفيد من هذه السياسية لجرّ وربط النظام المالي إلى العمق السوري، عبر طرح فكرة الشراكة وفتح الأسواق بين البلدين؟ فدعا السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة للتوجه شرقَا، أي فتح الأسواق على الاستثمار الصيني. وهذا يتطلب التغيير في النظام الإقتصادي للبلد، لا سيما أن الصين نظام اشتراكي، يعمل على تكوين تحالف دولي في الشرق، على شاكلة تحالف الشنغهاي. هذا الحلف يعمل على تضييق الخناق على التوسع الأميركي في العالم، وقد بدأ شرقًا، مع الاستثمار الصيني في إيران والعراق وسوريا، وطمعًا في الوصول إلى لبنان من خلال حزب الله.
إذًا، التوجه شرقًا يعني الدخول في لعبة المحاور، ضمن الاصطفافات الدولية، وهذا يتطلب تغييراً في هوية لبنان. وللوصول إلى هذه الحالة، علينا احداث الفوضى الخلاقة، تلك التي تدفع بلبنان واقتصاده إلى حافة الانهيار لإعادة بنائه. فهل رفض الحزب التعامل مع صندوق النقد الدولي، يهدف إلى تشديد الحصار الاقتصادي للوصول إلى الهاوية، وبعدها يعيد تكوين الاقتصاد اللبناني انطلاقًا من هوية جديدة تشبه حلفه الإقليمي!؟
ماذا عن الفريق الآخر المتمثل في الحراك، وما يحمل معه من أبعاد استراتيجية تهدف إلى ضرب العهد، وحليفه حزب الله. هل بدأ تنفيذ الفوضى الخلاقة عبر ما يسمى الحراك؟ ولا سيما راكبي الحراك، الذين مارسوا السلطة لأكثر من ثلاثين عاماً ، يعملون على ذلك، لإعادة بناء الدولة على طريقة عفا الله عن ما مضى، مستندين على ما حصل بعد الحرب الأهلية، لا سيما وأن الأحدث اليوم مؤاتية؟ فبالنسبة إليهم، الفوضى باتت مطلباً ضروريا. فالحراك، تحت عباءة المطالب، يعمل على زعزعة أركان النظام القائم، فلا أحد ينكر أن حراك 17 تشرين الأول، سارع عبر قطعه للطرقات، بشلّ أوساط البلد. فهرب المستثميرين، وأغلق الكثير من المؤسسات، فصرفت عمالها، وتركتهم فريسة البطالة. كما أن ضرب هيبة الدولة كان هدفهم، عبر زعزعة الثقة بالجيش، وبالمؤسسة القضائية، من خلال الاعتصامات أمام قصور العدل لاطلاق المخربيين، تحت اسم الثائرين. ناهيك عن ضرب القطاع التعليمي، عبر تعئبة غير مسبوقة لطلاب لبنان وبرمجة العقول لشتم المسؤولين واقفال المؤسسات التربوية.
إذًا، على ما يبدو، فإن فلسفة الفوضى الخلاقة هي واحدة، ولكن بوجهين، عند فريقي النزاع في لبنان. لهذا ليس من باب الصدفة أن يكون هناك امتداد إقليمي طبيعي لهما. لا بل، عالمي متخبّط في إعادة رسم العالم الجديد بعد جانحة كورونا التي أسقطت المنظومة الطبية لكثير من الدول. وتتجه على ما يبدو لتفكيك العلاقات الدولية، لتنتجها غيرها.
أخيرًا، لم يعد أمام الحكومة المتسع من الوقت للتحرك، لهذا سارعت في طرح الخطة الإقتصادية، والتوجه نحو صندوق النقد الدولي. لأنّ الوعي العام لديها، أن لا تسمح لأي فريق من تحقيق نقاط على الأخر، كي لا يسقط الوطن في لعبة المحاور التي ستزجّ به في مسار سيغير وجه لبنان الإقتصادي والسياسي، لا سيما أن تغيير للنظام الدولي قد يكون يسلك الطريق الطويل.
جيرار ديب - أستاذ الفكر السياسي في الجامعة اللبنانية
المصدر :الدكتور جيرار ديب
جريدة الأيام الإلكترونية.
- علامات:
- مجتمع