أمل ناصر ناصر.. الخطاب الشُّعوريُّ بين الخفَّة والثِّقل/جريدة الأيام الإلكترونية
إعطاء التَّجربة الشُّعوريَّة صفة المنهج لقدرتها على إظهار نفسها كشكلٍ تعبيريٍّ عن طريق اللُّغة باختلاف فروعها وقفت عليها الكثير من النَّظريَّات الفلسفيَّة الَّتي اعتقدت ببث التَّجربة المعرفيَّة عن طريق القلب والحدس قبل البرهان العلمي.
بين قطبي الخفَّة والثِّقل يوزِّع ميلان كونديرا - في روايته كائن لا تحتمل خفَّته – فكرة سيطرة الإنسان على ما يدور حوله، ويدرجها في شخصيَّات روايته بين الخفَّة العاطفيَّة والثِّقل العاطفيِّ ويقف متذبذبًا بين شخصيَّات الرِّواية الأربعة في طرحه وتساؤلاته الفلسفيَّة الَّتي يعيدها كونديرا إلى بداية الأصل أو البدائيَّة متنقِّلًا بين نظريَّات عدَّة يطرحها في ثنائيَّات لا يمكن لها أن تنفصل لحظة عن الأدب والفلسفة؛ مثل المسيرة الكبرى والرُّوح والجسد مقاربًا إيَّاها من الواقع النَّفسيِّ، والجسديِّ، والسَّياسيِّ، والتَّجريبيِّ أيضًا، ويعطي تفسيرًا للنَّشاط الوجدانيِّ الإنسانيِّ وانعكاسه على الطَّبيعة الفيزيولوجيَّة للإنسان، ويرجعها كلُّها إلى نقطة الأساس أو البداية منذ بدء الخلق وكيفيَّته، والهدف منه، وكيف كانت طبيعة آدم وحواء في الجنَّة، وكيف أوحى الله للإنسان طبيعته النَّجسة على الأرض، ويوضح كونديرا أنَّ اللَّذة تختلف عن الإثارة، وأنَّ الإثارة هي الَّتي تتعارض مع فكرة الجنَّة. يقول في روايته: " المقارنة بين كارنينا وآدم تجعلني أفكِّر أنَّ الإنسان في الجنَّة لم يكن قد صار إنسانًا بعد. وبطريقة أصحٍّ لم يكن قد قذف بعد إلى مدار الإنسان. أمَّا نحن الَّذين قُذفنا منذ زمن بعيد محلقين في نزاع الوقت الَّذي يسير في خطٍّ مستقيم، فلا تزال في داخلنا بقيَّة من خيط رفيع يشدُّنا إلى الجنَّة البعيدة المغبَّشة، حيث كان آدم ينحني فوق النَّبع من غير أن يفكر، على العكس تمامًا من نرسيس، في أنَّ هذه البقعة الصَّفراء الشَّاحبة تتراءى له، هي صورته. الحنين إلى الجنة إذن هو رغبة الإنسان في ألَّا يكون إنسانًا". يصوِّر كونديرا هنا الجنَّة كنطقة البداية أو الأصل، ألَّا يكون الإنسان إنسانًا، أي أن يتخلَّى عن رغبته في السَّيطرة على الطَّبيعة والحيوان، ألَّا يكون له سلطة على كائنات الكوكب الأخرى كافَّة، أو كما يقول ديكارت أنَّه جعل الإنسان سيَّد الطَّبيعة ومالكها، وهكذا فإنَّ أنين الحيوان يكون كصرير الآلة فقط. كيف يمكننا أن نعود إلى جذور الجنَّة في واقعنا الشُّعوريِّ والحسِّيِّ؟ طرحها كونديرا بين ضفَّتي الخفَّة والثِّقل، وجعل لكل منهما فلسفته الخاصَّة بدون أن يعطينا إجابات واضحة. يكمن الجوهر في الخفَّة، خفَّة المشاعر، وخفَّة الطَّرح، وخفَّة الأفكار، والخروج من فكرة السَّيطرة على الآخر كي نهمَّ في استكشاف أغوار ما يحيط بنا.
الخفَّة الَّتي طرحها كونديرا من ناحية فلسفيَّة، وتجريبيَّة، وشعوريَّة، ودينيَّة، وفكريَّة لم تغب يومًا عن طروحات الفلاسفة والقدماء، لكن كونديرا هنا ميَّزها بالقالب الَّذي قدَّمها فيه، ويُرجع الخفَّة بشكل أساس إلى ما يوجد داخل القلب.
في نظريَّة الإشراق عند السَّهروردي يقول في معرفة الله عن طريق النُّور وهي تجربة روحيَّة محضة، لا تتمُّ إلَّا عبر القلب، والأصل والمبدأ في الفلسفة الإشراقيَّة هو إشراق الأنوار الإلهيَّة عن طريق القلب، أي هذه الأنوار هي الَّتي تبثُّ طبيعة التَّجارب المعرفيَّة للوجود، فإشراق الله وفيضه كحالة معرفيَّة من القلب يأتي من فائض النِّور الإلهيِّ الَّذي لا ينقطع، إذن ماذا يتطلَّب من القلب كي لا ينقطع عنه مداد النُّور هذا؟ النُّور مادَّة خفيفة وسريعة، ولها قدرة على الاختراق وكي تستقر في القلب يجب على هذا القلب ألَّا يكون مثقلًا بكلِّ ما يحجب عنه هذا النُّور، فارتباط القلب بالنُّور يتطلَّب منه الخفَّة وليس الثِّقل. يقول السَّهروردي: " فإذا قويت النَّفس بالفضائل الرُّوحانيَّة...تتخلَّص أحيانًا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدَّس، وتتلقَّى المعارف...". إذن إعمال جميع مستويات النُّور في النَّفس يتطلَّب حقيقة الخفَّة القلبيَّة والرُّوحيَّة كي يتمكَّن هذا النُّور من الولوج داخل الرُّوح، ويصل إلى أعلى مستويات الإشراق، فالأمر مرتهن بخفَّة القلب. وخفَّة القلب لم تقف هنا بل كان الفراعنة قبلًا قد اتخذوها أساسًا في العدل والمصير والحقِّ. كانت ماعت إلهة الحقِّ والعدل والكون تعتلي على رأسها ريشة وتمسك بيدها صولجان الحقِّ، ماعت المحفورة صورها في إهرامات مصر تحاكم الموتى من خلال وزن قلوبهم، بحيث يوضع قلب الميت في كفَّة الميزان وريشة ماعت في الكفَّة الأخرى، فإذا كان وزن القلب أخفُّ من ريشة ماعت يذهب صاحبه للفردوس، وإذا كان أثقل من ريشتها يذهب للظُّلمات ليفترسه الوحش عمعموت لأنَّ قلبه أسود. إذن مصدر السَّعادة الأبدية والعودة لنقطة البداية والنِّهاية الَّتي هي الجنَّة خفَّة القلب، أو الخفَّة الَّتي تلقي بظلالها على الرُّوح.
في عالمنا هذا، عالم الانغماس في الجمود والتَّشيؤ، عالم الصُّورة السَّريعة والعبور السَّريع نحو اللَّاشيء والعبث، العالم الَّذي تتحكم فيه صورة جامدة مجتزأة العناصر، منسلخة عن واقع الرُّوح والقلب، ومتجَّهة نحو الاغتراب القاسي، كيف نستطيع أن نصنع جنَّتنا الخاصَّة على الأرض ونحن أحياء ويتملَّكنا شعور الحب؟ هل نكتب؟ أم نعزف الموسيقى؟ أم نركض حفاة وعراة متخلِّين عن كلِّ الأثقال الَّتي نحملها وتحملنا؟
الخطاب الشُّعوريُّ العميق الَّذي يتعارض مع كلِّ ما هو سطحيٌّ، والموسيقى النَّاعمة الَّتي تتعارض مع الضَّجيج، كلُّها تتجلَّى في نظرة مغايرة للواقع. القلب المرتعب من هذه التَّعاسة والدَّناءات المرتكبة كيف يشارك فيها؟ كيف نجد حلولًا لكلِّ هذه التَّعسفيَّة المحيطة بنا؟
يقول سترافنسكي إنَّ علَّة وجود الموسيقى لا تكمن في كفاءتها في التَّعبير عن المشاعر، ويقول عنه أنسيرميه صديقه المخلص: " لم يحاول أن يجعل موسيقاه فعلًا للتَّعبير عن ذاته، ليس بسبب خيار حرٍّ، إنَّما بسبب نوع من محدوديَّة طبيعته، وبسبب نقص في حريَّة نشاطه الوجدانيِّ،( لئلا نقول بسبب تعاسة قلبه الَّذي لا تتوقَّف تعاسته إلَّا عندما يجد شيئًا جديرًا بالحبِّ. بحسب ما يقول ميلان كونديرا". انتقم الموسيقيُّ العظيم من نقص أداة التَّعبير الوجدانيِّ عنده من أنَّه جرَّد موسيقاه من إرجاعها للمشاعر. هذه الضَّراوة الَّتي تجتاح مشاعرنا اليائسة عندما نكتب أيعقل أن نجرِّدها من نشاطها الشُّعوريِّ وشذراتها الوجدانيَّة؟ هل سنتوقف يومًا عن الكتابة مع ارتعاب القلب ومحدوديَّة نشاطه العاطفيِّ؟ هذا اللِّقاء الاستثنائيُّ بين الانسجام من القلب مع الآخر سيكون له قدرة للعبور نحو الجنَّة والخفَّة، ولكن خوفًا من التَّعارض مع العمق، وألَّا تتآلف أصواتنا الدَّاخلية مع ضجيج الطَّبيعة الخارجيِّ، وكي لا نخرج من ذاكرة الأجيال القادمة علينا أن نجد للتَّعابير الشُّعوريَّة وللنَّشاط الوجدانيِّ هويَّةً تنقلنا من الزَّيف إلى الحقيقة، من الثِّقل إلى الخفَّة، من اللَّاشيء نحو كلِّ شي، ومن الاغتراب إلى الجنَّة. لنخلِّد تلك الحماسة الَّتي تجتاح مشاعرنا، ولنصغِ إلى الموسيقى لا إلى الضجيج، ولنَخرجْ من الخربشات إلى الكتابة فقط لنعمِّق ذاكرة الجيل، ونعلِّمه المعرفة عن طريق الحبِّ.
أمل ناصر ناصر-كاتبة
جريدة الأيام الإلكترونية. صفحة "ثقافة"
- علامات:
- مجتمع