28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

معاينات ومعاناة، نفثات شعرية، للدكتور سلمان نزال،. عبد المجيد زراقط/ جريدة الأيام الإلكترونية

معاينات ومعاناة، نفثات شعرية، للدكتور سلمان نزال،. عبد المجيد زراقط/ جريدة الأيام الإلكترونية في ضوء دلالة العنوان
العنوان لافت ليس للمحسّن البديعي فحسب، وإنّما للدلالة أيضاً، وهذا هو الأهم، فهو دالٌّ على صدور الشعر عن الواقع المعيش، ليس عن عيش هذا الواقع فحسب، وإنّما عن معاينته، أي النظر إليه بعينين : عين البصر المفضية الى إدراكه الحسي وعين البصيرة المفضية الى تأمُّله وإدراكه العقلي ، في فضاء معاناته ، أي في فضاء تشكيله حالات وجدية، ووجدانية، وهي – أي هذه الحالات- ما يتمثل نفثات شعرية ، تمثل تلك الحالات.
وإذ نتبيَّن هذه الدلالة، نقرأ نصوص هذه المجموعة الشعرية في ضوئها. الشاعر وحكاية شعره
تبدأ هذه المجموعة الشعرية بتصدير هو ثلاثة أبيات، مؤرَّخة، في موضع اَخر منها، في العام 1961، وهي غير معنونة، كأنّ الشاعر أراد أن يترك للقارئ تبيُّن دلالتها ووضع عنوان لها.
تتخذ هذه الأبيات بنية سردية، كأنَّ الشاعر يريد لها أن تقصَّ حكاية شعره، فيعرِّف القارئ به، بهويته وبما يريد له أن يحقِّق، أي بفاعليته، فهو يسكب معاينته ومعاناته نفثات شعرية، يمليها وجدانه، فيسكب هذا الوجدان في كأس ، ويقول له:"كن الحياة ، ليس لأيِّ شخص، وانَّما لمن يبتغي بك الأربا "؛ وهو بهذا يقدّم وجدانه في كأس لمن يبتغي به الأربا، فيتمثل له شعره، شخصًا يجيبه بقوله: مرحى، أنهض أنا بأداء هذه المهمة، وأضيء الواقع ، فأبدِّد الظُّلَم صبحًا والدُّجى شهباً.
مفهوم الشعر
ثم يعرّف هذا الشعر بأنّه عصارة من سخاء الغيب، ما سُكبت، إلا لتبعث في جنح الندى زغبا. فما سُكب في الكأس، كما مرَّ بنا، هو وجدان الشاعر، وهو هنا سخاء الغيب، وسخاء الغيب يعني عطاء/ كرم العالم الآخر، وهذا يقدِّم مفهومًا للشعر مفاده أنَّه تلقٍّ من العالم الآخر، إلهام يؤتاه الشاعر، يكون وليد معاينته ومعاناته، وهذا السخاء/ الإلهام يُنبت في جناح الندى زغبا، وهذه صورة شعريّة، تجعل للشعر فاعلية إنبات الريش في جناح طائر هو الندى، فيرفرف الندى/ الشعر في فضاء عالم المعاناة، فيحيله عالمًا يُحتمل العيش فيه، وهذه هي وظيفة الفنّ عمومًا، والشعر خصوصًا، وهكذا يقدِّم الشاعر، منذ البداية ، شعره من حيث مصدره: الواقع المعيش المؤتي إلهامًا، وفاعليته: تبديد الظُّلم والظلام وتحلية العيش ومتلقيه: الراغب في نيل الأرب.
المتلقي الصديق
يفيد عنوان المقدمة، وهو: " لمن يهمّه الأمر"، ما سبق أن تبيّناه من أنه يتوجَّه ليس لأيِّ قارئ، وإنما للقارئ الراغب في القراءة وفي الأرب، أي لمن يهمُّه أمر الشعر، وهو القارئ الكريم الذي يعرب عن تقديره له، بعد حمد الله ويخاطبه بـ: "يا صديقي".
اللغة الشعرية المطواعة
كما تفيد هذه المقدمة النثرية أنَّ هذا الشعر هو وليد المعاناة ، في صيغة النظرة الإنسانية الأصلية من دون أن يطولها "محذور المكاء والتصدية". يحيل هذا التعبير: "المكاء والتصدية" إلى ما جاء في القرآن الكرم عن صلاة الجاهليين الذين كانوا يطوفون حول الكعبة المكرمة، فصلاتهم تلك كانت أصواتًا عالية مزخرفة يردّدها الصدى.
وهو إذ يقرّر هذا، يعيد ما قاله، في بدء هذه المقدمة ، وهو أنَّ صفحاته لم تخالطها الصناعة والتزويق والتحسين والزخرفة، في أيِّ شكل من الأشكال المفارقة للفطرة الأصيلة، وقد أملتها آلامه الفالعة صَدَفة القيود، ويسمِّي ، من هذه القيود ، "تضاريس الأوزان وعقبات التفعيلات وعناد القوافي"، وقد استطاع تطويع هذه التضاريس والعقبات، وأن يجعل اللغة الشعرية مطواعة وتجربة المعاينة والمعاناة تملي النص الذي يجسّدها، فيكون موزونًا مقفى، أو متحرِّرًا من الوزن والقافية، معتمدًا التفعيلة أو متحرِّرًا منها.
معاناة النشر
يدلُّ تاريخ كتابة هذه المقدمة، وهو 15/5/2002 على شيءٍ من معاناة الشاعر؛ إذ إنه يفيد أنَّ الشاعر انتظر إحدى وعشرين سنة ليُصدر شعره وينشره، وهذه حال كثير من الشعراء والكتاب الذين لا تتاح لهم فرص النشر، فلا يحظون بالحضور الشعري الفاعل.
أولى القصائد، والمنظور الشعري
بدأ سلمان نزال نظم الشعر في آونة مبكرة من عمره، فأولى القصائد تعود إلى العام 1952، فمنذ ذلك العام كان ينظم الشعر في موضوعات كثيرة ومتنوّعة، وهي موضوعات الحياة التي يحياها الشاعر المعاين هموم الذات والوطن والرائي اليها من منظور الرائي الكاشف، القائل:
دعني وآلامي فتلك حقيقتي/ وحقيقة الإنسان أن يتالَّما
كدحٌ وهمٌّ والبلاء عارم/ هذا صراط العمر لن نتنعَّما
يعرب الشاعر عن حقيقتة هذه، وهو كما يفيد شعره، ومنذ المراهقة ، أي منذ العام 1952، "مضنى وحيد، عن الهداية لايحيد"، ويمضي في هذا المنحى طوال مسار العمر، فينشد بعد خمسين عامًا، أي في العام 2002، مخاطباً نفسه:
أمسكت أهوائي، وقلت لها: ارتدي/ ثوب الهدى والنور لا تترددي ويجرّد من هذه النفس شخصًا ويريد لها أن تكونه، وهو الإنسان المؤمن التقي الذي يسعى إلى العودة إلى موطنه الأوَّل ، وهو نعيم الله، سبحانه وتعالى، فيدعو:
يا رب اجعل من نعيمك مسكني/ واعطف عليّ بحبّ آل محمد ويمضي في هذا المسار، فيخاطب الانسان، في خواطره وتوسلاته: "حاسب، فإن العمر جدّ قصير...، وانظر فإن القبر خير نذير..." . ويرى أنَّ المؤمن الذي يلهمه الحقُّ الصوابَ ، ويُتوفى لا يموت، يقول الشاعر في رثاء هذا المؤمن :
لا! لم يمت ، هذا محال/ مؤمن يسمو ويرتدّ للأعال...
وفي رثاء أخيه الفارس المرحوم أسعد نزال، رأى أن من جاور الله ، سبحانه وتعالى ، لا يكبو ولا يهن. والعزة حال كل من يأتزر بثوب الإيمان والتقى، وهو يضن بنفسه لا خوفًا ولا هلعًا ولا ارتياحًا إلى دنيا ولا طمعًا. فيكون بهذا عزيز النفس يكرمها، وتكون صلتها، وهي صلة الأرض بالسماء، وثيقة. هذه هي فطرة الإنسان، وهو سعيد بها، يحياها، وقد استقال من "بازار" الآخرين وشعر بأنه يعيش اغترابه.
الرؤية الى العالم وقضاياه من هذا المنظور يرى سلمان نزال إلى العالم وقضاياه وأشيائه.
الحب : يرى الى الحبّ ، فيريد له أن يكون شريعة فينشد:
شرِّعوا للحبّ وابغوه خيارا/ واصطفوه شرعةً تهدي الحيارى...
وإذ تدعوه الحبيبة إليها، وهو في ذروة الشباب ، في العام 1962، يقول لها: "لا تظنّي الحب جسمًا" ويقول في قصيدة أخرى: - كلما مثلتك في خاطري/ يتجلى الطهر في أبهى صور.
يحبُّ . ويعاني، وتكون الحبيبة ليلة القدر كلما لمعةٌ لاحت في عينيها يقول: - وأنا حالم أسرّ لنفسي/ ليلة القدر لم تعد مستحيلة.
وكان ، من قبل ، قد ناداها: "تعالي"، في قصيدة عنوانها: "من مراهق الى مراهقة " (1953):
تعالي، ردي حوضًا من الحب الدفين/ وكوني منتهى حبي وديني.
العلاقات الاجتماعية : ومن هذا المنظور نفسه ، يرى الى العلاقات الاجتماعية ، فيريد أن تحكمها منظومة قيم دينية أخلاقية إنسانية، فيأخذ على الأناني المتعجرف أن يرى نفسه نوعًا من البشر خارقاً، فوق حقيقة الانسان، ويدعوه لأن يعرف حقيقته، ويبذل لمن يظنُّ أنَّه صديقه الفؤاد والحشايا. لكنه عندما يكتشف حقيقته ، ويفاجئه بخسة عاهر، ينبذه.
أعلام الأمَّة:وإذ يصدر ، في علاقاته ، عن منظومة قيم تعلي شأن الصداقة والنضال، يهدي صديقه المناضل قصيدة، شأنه في ذلك شأن أعلام الأمّة الذين يهديهم قصائده بوصفهم قادة هداة، ومنهم الإمام الخميني والسيد محمد حسين فضل الله والسيد حسن نصر الله والإمام موس الصدر والشيخ عبد الأمير قبلان...
فالإمام الخميني كان بصيرة الأمة، والهمام الممتلك صفات إمام الأتقياء حيدرة، والسيد محمد حسين فضل الله علم الهدى والعدل والانفتاح والتقى. عرّى بالحقّ من باتوا سماسرة الدّين، وكان المجدّد، والسد حسن نصر الله، سليل من قال: إنَّ دنياكم أهون عليَّ من شسع نعل، وهو فينا رعشة ثورية، رعشه الوجدان بالنور تأتلق، والإمام موس الصدر، العامل على إحياء الأمة، ويخاطبه بقوله: "كنت الجواب على الأيام تلهبها/ عزاً إذ نكبت في عزها العرب"، والشيخ عبد الأمير قبلان، خاطبه بقوله: يا كوَّة من ضياء الله تتقد. ثنائية ضدية : وفي المقابل، يكشف حقيقة كلِّ عالم دين، شدَّه حطام الدنيا وغرور فتنتها إلى ذات عمياء صماء هالكة، وإلى تجارة مع الطاغوت خاسرة في الدنيا والآخرة، فيكون ألعوبة الدنيا الفانية.
وهكذا تتشكل ثنائيّة ضديّة من علماء الدين ، طرفها الأول أعلام قادة هداة يحيون الأمة ويصنعون مجدها، وطرفها الثاني رجال هم ألعوبة الدنيا، والأُوَل هم الذين يمضون في طريق النبي (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والأئمة (عليهم السلام). وفي طريق سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام): صوت العز، وصوت الشرفاء، وترب الحق، ومن هو للأرض سماء.
القادة الهداة وواقع الأمة: هؤلاء القادة الهداة هم من تحتاجهم الأمة لتخرج من واقع يصوره الشاعر في غير قصيدة، ومن نماذج ذلك نذكر على سنبل المثال:
في لبنان الفقير، والذي كانت الحرب فيه "تنين الموت الأحمر، زعامات شابوا على المكر، والبهتان رائدهم/ وفي الوطن الغربي:
حكام ناموا، وجودهم سواء والغياب وشعب بالحديد ينساق ويحكم أمره ظفر وناب.
ما يثير السؤال في حوار مع النفس:
لماذا بعد أن كنا نسوراً/ يحوم على مرابعنا الذباب؟!
ويقول للقادة العرب:
تدفنون الرؤوس في حفر الوحل/ تلوون عن حقكم خاسئينا
وإذ يعي الشاعر هذا الواقع، يقول:
صوت من الغيب ناداني، فأيقظني/ يكفي سباتًا على مهدٍ من الغصن..
صوت من الغيب ناداني، فألهبنني/ أين الرجال وأصل المجد والفطن؟
إلى هؤلاء الرجال يهتف:
- قوموا، سبحوا الله، انهضوا كونوا كالبركان المتقد، جاهدوا...
المقاومة: ويكون خطاب من الروح لكل مقاوم. وإذ ينهض المجاهدون من فلسطين ولبنان يمجّد جهادهم في قصائد كثيرة، ويخاطب المقاومين المنتصرين في العام 2000:
يا كماة التحرير فيكم فؤادي/ عالقٌ ما بقيت، والنجم طالع
ويهتف: لبيك فلسطين، ولمقاوميها يقول:
خذوا جسدي، وصوغوه قنابل/ لعل بنارها تصل الرسائل.
وإذ يعاني المآسي التي صنعها المحتل الصهيوني في فلسطين ولبنان والأقطار العربية، يستعيد مأساة كربلاء وتكون "أم فضل" الفلسطينية السيدة زينب في وعيها وإبائها وإيمانها وثقتها بالنصر، ويكون شهداء قانا بدورًا يضيئون، ويهدون المجاهدين في سعيهم إلى التحرير وقيامة الوطن القوي القادر العادل. الحبُّ والشعر صنوان
وهكذا ينهض الشعر بأداء مهمته، يحلّي العالم، يرى إليه، يكشفه، يضيئه، يحدي للساعين إلى التحرير والتغيير. منذ البدايات كان سلمان نزال يعي دور الشعر، قال قصيدة مؤرخة في العام 1967: تعطفتني لأن أحكي لها شعرا/ وما درت أنها تطلب الروح والسحرا... وإذ تكون الحبيبة تكون هي والشعر صنوان، وهكذا يشع العالم بالصنوان: الشعر والحب، فيطلع الصباح وتذوب فحمة الليل...
د.عبد المجيد زراقط. كاتب واكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي.