28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

عبد المجيد زراقط ،دور العلماء العامليِّين الأدبي {الشَّيخ علي مهدي شمس الدين (1302هـ/ 1884 – 1954م} / جريدة الأيام الإلكترونية

عبد المجيد زراقط ،دور العلماء العامليِّين الأدبي {الشَّيخ علي مهدي شمس الدين (1302هـ/ 1884 – 1954م} / جريدة الأيام الإلكترونية الشَّيخ علي مهدي شمس الدين (1302هـ/ 1884 – 1954م) ولد في قرية مجدل سلم، التابعة لقضاء مرجعيون، ينتمي لأسرة علمية أدبية. نشأ في رعاية والده الشيخ مهدي، وعليه تلقَّى علومه الأوَّليَّة، وبعد أن توقَّفت مدرسة البلدة التي أسَّسها والده، انتقل إلى مدرسة شقراء؛ حيث تابع دراسته على السيِّد علي محمود الأمين (ت 1828هـ - 1910م). في سنة 1922، عُيِّن قاضياً شرعياً في محكمة مرجعيون الجعفرية، ونقل بعد مدة وجيزة إلى صور، ثم أعيد إلى مرجعيون، وبقي فيها إلى سنة 1932، حين استقال من سلك القضاء الشرعي، وعاد إلى قريته مجدل سلم. كان وثيق الصِّلة بعدد من الشعراء، فزار مصر بدعوة من الشاعر أحمد شوقي، وتوطدت علاقته بالشاعر رشيد نخلة، ثم بابنه الشاعر أمين. كان حاضر الذِّهن، نافذ البصيرة، يرى إلى الواقع ويصوره في شعره، ويكشفه، ويدعو إلى تغييره، وقد جعل هذا بعض الزُّعماء المحليِّين يقاضونه، لأنه كان دائم الانتقاد لهم وتحريض الشَّعب عليهم.
كان زاهداً في الدُّنيا، يكتفي بالقليل، وغالباً ما كان الناس يرونه يرتدي عمامة بيضاء وجلباباً عادياً، يتحدث إليهم ويلاطفهم، ويسهم في حل مشاكلهم، التقى بالأديبة مي زيادة في مدينة شتورة، فأعجبت بشعره، غير أنها أشارت إلى بؤس مظهره الخارجي، فكتب لها في إحدى قصائده:
قلت: أغرقت في ملامك نزعاً
أنا لو تعلمين، يا ميّ، شاعر
لي نفسٌ سمت إلى الأفق
الأعلى فمن دون شوطها كل طائر()...
ومما جاء في قصيدة أخرى وجَّهها لها يصف نفسه:
... وثياب رثَّت عليك ولكن
تحت تلك الثياب نفسٌ كبيره
... فإذا عاش عاش في الناس
حرَّاً طيباً ذكره كريم السريره
... وإذا مات قالت الناس:
خلَّفت تراثاً، فنم بعين قريره.
كان شاعراً كبيراً، يجيد ارتجال الشعر، وقصَّته مع أحمد شوقي معروفة، عندما ارتجل قصيدته في حرب ليبيا، ثم في وصف حديقة شوقي، وآنذاك قال كلمته المشهورة: "لو كنت مكان شوقي لفاض الشِّعر من تحتي ومن فوقي".
يصفه عارفوه بـ"فقيه ورع، محدِّث بارع، أديب مبدع، وطني مجاهد، شاعر ارتجال يتناول الشعر من جيبه، فكاهي ساخر، محرِّض ثائر، كثير التِّرحال..."().
والده الشيخ مهدي شمس الدِّين، يصفه محمَّد جابر آل صفا، فيقول: "رأيته، لأول مرَّة، وأنا شابٌ حدث، وقد قدم إلى النبطية. في إحدى السِّنين، فرأيت شيخاً جليلاً، ملء برديه المهابة والوقار، بهيِّ الطلعة، حاضر الجواب، وكان يصطحب في أسفاره كيساً صغيراً من نسيج أبيض يضمُّ كتبه وأوراقه، وما يحتاج إلى مراجعته وتدوينه، وقد كتب على ظهر الكيس:
خمس وستُّون من عمري مضت حججاً
أفنيت أيَّامي بحثاً وتدريسا
أطوف بالكيس أبواب الألى ملكوا
روض العلى فلعلِّي أملأ الكيسا()
يفخر الشيخ علي شمس الدين بالنفس الكبيرة والسريرة الكريمة، فيقول: ... وأرباب رنت عليك، لكن
تحت تلك الثياب نفس كبيره
... فإذا أبى عاش في الناس حـ
راً، طيِّباً ذكره كريم السريره
ويقول في بيان ظلم "العشَّارين"، وهم رجال السلطان العثماني الذين كانوا يأتون ليأخذوا عشر المحصول، وهو ضريبة من عدة ضرائب كانت تفرضها السلطة العثمانية:
إذا أتى زمن العشَّارين خلتهم
قطاط مسبغة خفت إلى فار
ويقول عن الفقر الذي أصاب الناس بفعل ممارسة الدولة العثمانية سياسة "القط والفأر":
قوم إذا همُّوا بغسل ثيابهم
لبسوا البيوت وزرّروا الأبوابا
ويحيي مواجهة الثوار العرب في ليبيا للاستعمار الإيطالي الفاشي، فيقول: لا يصدق السيف ما لم تصدق الهمم
فالسَّيف يصدأ، والخطى يتحطم
يا شرق حسبك جهل قد أقمت به
أفق، ودونك ما ابتزُّوا وما ظلموا
هل وثبة في ظهور الخيل مرجعه
من مجدنا اليوم ما اغتالوا وما التهموا
ويسخر مما يقوم به المسلمون بعد حدوث نكبة فلسطين سنة 1948، فيقول:
والمسلمون ليس من واجبهم
إلاَّ القيام بصلاة الغائب
ولا يلبث أن يحدِّد موطن الدَّاء، فيقول:
ما ضرّنا أجنبي في طماعته
ولا جنى وعد بلفور على العرب
وإنما...
من باع أثمن أرض لليهود ومن
رمى الوري بالدَّواهي الدهم عن كثب
وأدرك أن من واجبه الكشف والتحريض، وأن ليس من حقٍّ يُعطى لمستسلم، فيقول مستخدماً أسلوب الاستفهام الانكاري:
أيشرب غيري، وأبقى ظمي،
وأرضى عن الشهد بالعلقم!؟
وأخرس، والجور ملك البلاد،
ولا ماء يمنعني في فمي!؟
وأجبن مستسلماً للهــوان
ولا حقٌّ يعطى لمستسلم!؟
وينادي رجال السلطة في لبنان يطلب منهم أن يعوا دروس التاريخ: ...إيه لبنان، آن أن تعرف الدهـ
ر، وتصغي إلى بليغ دروسَ()
"ويذكر الشاعر موسى الزين شرارة، في لقاء معه عن الشيخ، فيقول: وقفت معه في حربنا الشعواء ضد بعض رجال السياسة، الذين جعلوا العاملي يرضخ تحت نير العبودية، كانوا سبب بلائنا، ولم يكن معنا إلا القلم، ومع ذلك انتصرنا، حتى أن بعض العلماء من المشايخ كانوا يؤيدون هؤلاء الزعماء للتكسب، هجوناهم مع أسيادهم، وكانوا يخرجون من أي مجلس نبدأ فيه بإلقاء قصيدة، ومن أمثلة ذلك يقول الشاعر شرارة:
لو زرتهم لوجدت في أبياتهم
بذخ الرشيد وعزة المتوكل
فرد عليه الشيخ شمس الدين قائلاً:
لو زرتهم لوجدت في أبياتهم
"ساكو" اليتيم وبنطلون الأرمل
فقلت لأحد العلماء وقد كان صائماً:
ما العلم صومك عن لحم وفاكهة
بل زجر نفسك عن مال المساكين
ما الدين فرض تؤديه لفارضه
وأنت بالسر تؤذيه وتؤذيني
فردًّ الشيخ علي:
ما العلم في عمَّة بيضاء تلبسها
ولا بخضراء تحكي "تل دبين"()
ألَّف قصَّة شعرية بلغ عدد أبياتها مئتي بيتٍ من الشعر، تبدو وكأنها سيرة ذاتية شعرية يروي فيها وقائع من حياته في الوقت نفسه الذي يصوِّر فيه واقع الحياة في جبل عامل، هذا إضافةً إلى قصائد قصصيّة تفيد أنَّه كان يستجيب لتجربته الحياتية التي كانت تملي عليه شعره المتصف بخصائص تميِّزه وتمثل خصوصيته، ومنها: لغة شعرية مأخوذة من لغة الحياة، اليومية، وتركيب بسيط سهل متين في آن، وصور شعرية مبتكرة مادتها مأخوذة من معطيات الحياة اليومية المعيشة وليس من الذّاكرة الشِّعرية، وسخرية لاذعة تصوِّر الواقع ومفارقاته صوراً ملموسة تجعل الشفتين تنفرجان تلقائياً، لدى قراءة القصيدة أو سماعها، كقوله، على سبيل المثال، في رسالة للشاعر موسى الزين شرارة، يصف الزكام الذي أصابه:
هل عندكم ما عندنا، يا مشرك
أنفٌ يسيل أسىً وطيزٌ تضحك
وكقوله لأحد الوجهاء الذي وعده بثور، ولم يفِ:
أسود الشعر كحظِّي عندكم
ذيله كالوعد حبلٌ من مسد
هذا إضافةً إلى ما ذكرناه، آنفاً من نماذج شعرية.
الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص روائي.
المصدر : الدكتور عبد المجيد زراقط
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت