28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

في الشعرية وقضاياها، في كتاب :" الواقع وشعريته في شعر محمد علي شمس الدين "، لداود مهنَّا ،. عبد المجيد زراقط/ جريدة الأيام الإلكترونية

في الشعرية وقضاياها، في كتاب :" الواقع وشعريته في شعر محمد علي شمس الدين "، لداود مهنَّا ،. عبد المجيد زراقط/ جريدة الأيام الإلكترونية " الواقع وشعريته في شعر محمد علي شمس الدين ، دراسة تحليلية تأويلية "، كتاب من تأليف داود مهنَّا صدر عن "دار البنان".نقدِّم، في ما يأتي، مقاربة له موضوعها:" الشعرية وقضاياها "، كما تتمثل فيه.
يتألَّف الكتاب من مقدمة وبابين وخاتمة وقائمة مصادر ومراجع.تعرِّف المقدمة بالكتاب وقضاياه ومنهجه.ويبحث الباب الأوَّل في الواقع كما يتمثل في شعر محمد علي شمس الدين، ويتضمَّن ثلاثة فصول، يبحث أوَّلها في الواقع السياسي، والثاني في الواقع الثقافي، والثالث في الواقع الاجتماعي. ويبحث الباب الثاني، في شعرية الشعر الذي يتمثَّل ذلك الواقع ويمثِّله، ويتضمَّن ثلاثة فصول، يبحث كلٌّ منها في مستوى من مستويات شعرية الشعر، وهذه المستويات هي: الايقاع : العروض والتنغيم والتركيب والإنزياح. وتركِّز الخاتمة النتائج التي توصَّلت اليها الدراسة.
هذا الكتاب، في الأصل ، هو القسم الأوَّل من أطروحة أُعدَّت بإشرافي لنيل شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للدكتوراه، في الاَداب والعلوم الانسانية ، في الجامعة اللبنانية، والقسم الثاني من هذه الأطروحة يبحث في " الواقع وشعريته في شعر جوزيف حرب " .
الأكثر جدوى
يبدو لي أنَّ الأكثر جدوى، في الحيِّز المتاح لهذه المقالة القصيرة، ليس عرض محتويات الكتاب، وانما التحدُّث عن القضايا التي يثيرها البحث في الشعرية، وخصوصاً شعرية الشعر الذي يصدر عن الواقع الحياتي المعيش ليعادله، ويرى إليه.
قضية الشاعر / الناقد
هذه قضية اشكالية، وسؤالها هو: هل يمكن للشاعر أن يكون ناقداً باحثاً؟ مسوِّغ هذا السؤال يتمثل في أنَّ الشعر فاعلية حدسية ، في حين أنَّ البحث / النقد فاعلية ذهنية ؟ تقدم هذه الأطروحة اجابة عن هذا السؤال ، فكاتبها ، داود مهنا، شاعر، أصدر عدداً من المجموعات الشعرية المتميِّزة ، وتفيد قراءة أطروحته أنَّه باحث / ناقد منهجي متميِّز، امتلك المنهج على مستويي التنظير والتطبيق ، وتمكَّن بكفاءة من تحصيل المعرفة من مظانِّها وتقديمها للقارئ معرفةً علمية واضحة مقنعة. وكان لحسه وذوقه المرهفين ، بوصفه شاعراً ، أن يصل إلى " لطائف " أي الشعر لا يصل اليها المنهج البنيوي الذي اعتمده.كما أنَّه تمكَّن من جعل معطيات حدسه النفَّاذ ، وهي معطيات انطباعية ، مدخلاً الى تحصيل المعرفة العلمية وتقديمها ، بوصفها معرفة مقبولة من الاَخر ومقنعة له ، فوصف الدَّال / النص ، وتبيُّن خصائصه ، ثم تبيُّن مدلولات هذه الخصائص ، فكشف القناع عن المعنى الخفي ، يجعل دراسته تحليلية من نحوٍ أولٍ ، وتأويلية من نحوٍ ثان ، كما يدلُّ العنوان الثاني لها . ان قرأنا مدخل الكتاب ، على سبيل المثال ، نلحظ أنَّ الباحث ، قدَّم معرفةً بالشاعر ، ركَّزت ، مع ايجازها المكثَّف ، أبرز العوامل التي شكَّلت شخصيته وتجربته الشعرية : نشأة في غياب الأب والأم ، وفي رعاية العمة والجدّ ، وفي فضاء الايمان والتراث الشفوي ، والمكتبة العامرة بالكتب ، وخصوصاً كتب التراث ، والمجالس العاملية ، ودراسة توافر فيها العلم واللغة الفرنسية والأدب والفنون الأخرى من رسم وموسيقى ...
غياب النقد
في هذا السياق النقدي ، يثير البحث قضية غياب النقد الأدبي ، وان كان المقام لايتسع للتفصيل في شأن قضية كبرى ومتشعبة مثلها ، فإننا لانغفل الكلام على ماتبيّنه مهنا في هذا الشأن ، وهو أنَّ محمد علي شمس الدين رأى أنَّه لم يجد الناقد الأدبي القادر على مواكبة الشعر العربي عموماً وشعره خصوصاً ، مثل " ابن جنِّي " الذي قال المتنبي عنه :" ابن جنِّي أعلم بشعري منِّي " . يبدو لي أنَّ النفي هو أسهل الأمور ، لكنه أخطرها ، فالكتب التي تبحث ، في هذه القضية ، تملأ رفوف المكتبات ، كما أن البحث فيها يحتاج الى كتب تملأ رفوفاً أخرى ، والدليل ، على سبيل المثال ، أن ليس من غياب للنقد الرسائل ، والأطاريح ، وهذه الأطروحة واحدة منها ، التي تبحث في شعر محمد علي شمس الدين كثيرة .
جدلية العلاقة بين الواقع والشعر
هذه قضية اشكالية كذلك ، وأسئلتها كثيرة ، منها : هل ينقل الشاعر الواقع كما هو ؟ وعمَّ يصدر الشاعرفي شعره ؟ هل يصدر عن معرفة مسبقة حاضرة في ذهنه ، أو عن تجربة حياتية معيشة وشعرية ، في الوقت نفسه ، تلد لديه حالة تملي النص الشعري ؟ وهل يطابق هذا النص الواقع ، أو يغايره ليعادله ويكشفه ، ويرى اليه ؟
في هذا الكتاب بحث في هذه الاشكالية ، وعرض لآراء نقاد وشعراء ، وخلوص الى مامفاده : إنَّ الواقع الذي يتمثل في الشعر واقع شعري ، يصدر عن الواقع المعيش ، بوصفه مرجعاً له ، والواقع الشعري هو الواقع كما يراه الشاعر من منظوره ، يمثله لغة شعرية معادلة لمرجعها ، كاشفة له ، رائية اليه ، وهذه اللغة الشعرية تتصف بخصائص لغوية نوعية هي الدَّال بلغة النقد البنيوي ، تنطق بدلالة ، أو دلالات ، هي المدلول بلغة ذلك النقد نفسه ، مايعني أنَّ أمام الناقد الحصيف مهمَّتين : أولاهما وصف الدَّال ، وثانيتهما تبيُّن الأسرار التي يخبِّئها هذا الدَّال ، وهي المدلول ، أو المدلولات . هذا هو الشعر . أمَّا الكلام الموزون المقفَّى الذي ينقل الواقع كما هو ، أويسطِّر المعاني الحاضرة في الذهن مسبقاً ، فهو ليس شعراً ، وانَّما نظم يقدِّم معرفة مباشرة تفتقر الى الشعرية .
الشعريَّة
ترجم العرب القدماء كتاب أرسطو " فنَّ الشعر " الى " بيوطيقيا " ( ترجمه أبو بشر ، متَّى بن يونس ، المتوفَّى سنة ٣٢٨هج ) . وفي العصر الحديث ، تعدَّدت ترجمات العرب ، لهذا المصطلح ، ومن هذه الترجمات : بيوتيك ، بويطيقيا ، الابداع ، علم الأدب ، الأدبيَّة ، علم الشعر ، نظريَّات الشعر ، فنُّ الشعر ، الشعريَّة . والمصطلح الأخير هو الذي شاع لدى الباحثين ، في هذا الشأن .
في تاريخ هذا المصطلح ، المعروف أنَّ أرسطو ، في القرن الرابع قبل الميلاد ، سمَّى كتابه الذي يعرِّف الأنواع الأدبية ، ويصنِّفها ، ويتحدَّث عن عناصرها المكوِّنة ، " البيوطيقيا " ، أي الشعريَّة . وضع أرسطو ، في هذا الكتاب ، نظرية للشعر السائد في عصره ، وهو التراجيديا = المأساة والملحمة.
استقى هذا الفيلسوف نظريته من نماذج شعرية قام بدراستها ، وخلص الى أنَّ الشعر ، والفن عموماً ، محاكاة للأشياء والأفعال الانسانية، من نحوٍ أوَّل ، ويعني مايحدث ، ومحاكاة متخيَّلة من نحوٍ ثانٍ، ويعني مايُحتمل أن يحدث.
بقيت الكتابات ، في الغرب ، عن الشعر ، تنويعات على ماكتبه أرسطو . ونجد ، في التراث العربي ، نصوصاً تميِّز " علم الشعر " من العلوم الأخرى ، كما لدى الجاحظ ( ١٥٩ – ٢٥٥هج) الذي قال انه لايجد هذا العلم الا عند " أدباء الكتاب " ، وليس عند النحويين والبلاغيين والمؤرِّخين ... ، كما نجد لدى الفارابي ( ٢٦٠ -٣٣٩هج )، وابن سينا (ت. ٤٢٧هج ) وابن رشد ( ٥٢٠ – ٥٩٥هج ) وحازم القرطاجني ( ت. ٦٨٤هج ) ، استخداماً لمصطلحات دالَّة على الأدبية والشعرية ، منها : الخُطبيَّة والأقاويل الشعريَّة والشعريَّة ، غير أنَّ مصطلح الشعرية لم يكن مصطلحاً شائعاً في النقد العربي القديم . والجدير ذكره ، في هذا الشأن ، هو أنَّ الناقد العربي حازم القرطاجني ، لدى بحثه في الأقاويل الشعرية ، رأى أنَّ النص الشعري ، يتضمن أربعة عناصر هي : ١. مايرجع الى القول نفسه . ٢. مايرجع الى القائل . ٣. مايرجع الى المقول فيه . ٤. مايرجع الى المقول له . هذه العناصر الأربعة رأى رومان جاكوبسون أنها وظائف خطاب الاتصال ، وأضاف اليها وظيفة خامسة هي السَّنَن ، أو الشيفرة . والفرق بين القرطاجني وجاكوبسون ، هو أن الأخير استخدم مصطلحات مغايرة هي : الرسالة ، المرسل ، السياق ، المرسل اليه . وفي حين استخدم القرطاجني مصطلح " العمدة " للدلالة على وظيفة القول نفسه ، استخدم جاكوبسون مصطلح الوظيفة الجمالية المهيمنة للنص الشعري . كما وضع العرب نظرية عمود الشعر التي تتضمَّن عناصر الشعرية ، كما راَها كثير من نقادهم . في العصر الحديث ، يعيد الباحثون استخدام مصطلح الشعرية الى المدرسة الشكلية الروسية ( ١٩١٥ – ١٩٣٠) ، ثم تداوله كثير من الباحثين ، منهم رومان جاكوبسون وجان كوهين وتزفستيان تودوروف ... . تعدَّدت مفاهيم هذا المصطلح ، ويمكن التحدث عن أربعة مفاهيم ، يخصُّ كلُّ واحدٍ منها نوعاً من أنواعها ، وهذه الأنواع هي : ١. النظريات الشعرية ، علم الشعر ، قواعده وقوانينه . ٢. الشعرية النصية ، أي خصائص النص الشعري النوعية التي تجعل منه شعراً ، والخصيصة الشعرية هي الانزياح عن معيار هو قانون اللغة ، وينبغي أن يكون هذا الانزياح جمالياً ٣. الشعرية التجريدية ، أو الفلسفية ، أي البنية الكلية الثابتة للشعر، المفروض أن توجد في كلِّ نصٍّ شعري ، وكلُّ نصٍّ شعري انما هو تجلٍّ من تجلِّياتها . يوجَّه نقد الى هذا النوع من الشعرية هو : مامصدرها ؟ هل هي كائن ميتافيزيقي سابق في الوجود لأيِّ نصّ ، ومنفصل مستقلّ ...؟ ٤. الشعرية العامة ، وهي الخصائص التي تميِّز الابداع الشعري والنثري والفنِّي وكلّ ماهو جميل عموماً . تحدَّث داود مهنا عن الشعرية في مقدمة كتابه ، وفي مقدمة الباب الثاني ، فأرَّخ لها ، وأشار الى تعدُّد مفاهيمها، وعرَّفها ، وفصَّل في تعريف نوعها موضوع دراسته ، وهو " الشعرية النصِّية "، وتعني أنَّ موضوع التحليل والتأويل ، في أطروحته، هو اللغة الشعرية، أي بنية النص الشعري الصوتية – الدلالية ، أو نظام العلاقات اللغوي الشعري. وتحديد موضوع الدراسة مهمَّة أساس من مهمَّات أيِّ باحث، وقد نهض مهنا بأدائها كما ينبغي.
موسيقى الشعر بين العروض والإيقاع
يبحث مهنا في هذه القضية لدى بحثه المستوى العروضي الايقاعي . كما في أيِّ بحث منهجي ، يعرِّف مهنا الايقاع لغةً واصطلاحاً ، ويتحدَّث عن أهميته في تكوين هوية الشعر، وعن كثرة الرؤى اليه واختلافها ، وكونه كان ولايزال موضع جدل ، ثم يتحدَّث عن النغم في الموسيقى وفي الشعر ... ، وبعد أن يستوفي البحث النظري والتاريخي ينتقل للدراسة النصية ، موضوع دراسته . مايثير الاشكال ، وما ينبغي التوقف عنده ثنائية تتمثل في مايأتي : يقول مهنا ، من نحوٍ أول : ربط النقد العربي القديم بين مفهوم الايقاع ومفهوم الوزن ، ويستشهد بقول ابن سينا :" انَّ الشعر هو كلام مخيَّل مؤلَّف من أقوال متساوية موزونة ، أن يكون لها عدد ايقاعي ... " ( ص. ١٧٤ ) . ويرى ، مستشهداً بقول علي زايد عشري : أنَّ الوزن " يمثل الجانب الكمي ، ويشكل المدخل الجمالي الأوَّلي الذي يضطلع بوظيفة التنظيم الشكلي في النص الشعري ، ولولاه لتقوَّض البناء الشعري وتهدَّم " ، ويضيف : " وللوزن دور في تفجير الطاقة الدلالية والايحائية للغة " ( ص. ١٧٥ ) . ويقول ، من نحوٍ ثانٍ : " انَّ الايقاع الذي سيتناوله البحث ... هو الايقاع الذي يتشكل من الموسيقى الخارجية المؤلَّفة من الأوزان الشعرية المعروفة ، ومن القافية " ( ص. ١٧٤ ) . السؤال الذي يُطرح هنا هو : كيف تكون موسيقى الوزن المرتبط بالإيقاع ، والمؤلِّف كمَّ النص والمضطلع بتنظيمه الشكلي والمفجِّر الطاقة الدلالية والايحائية للُّغة موسيقى خارجية !؟ ومن أيِّ مصدر خارجي جاءت هذه الموسيقى ؟
وفي الختام، نقول: بدهي أن لا تستطيع هذه المقالة القصيرة الكلام على جميع القضايا التي يثيرها البحث في شعرية شاعر كبير مثل محمد علي شمس الدين الذي أثرى التراث الابداعي العربي بروائع خالدة، وحسبنا أن أثرنا قضايا جديرة بالتداول والنقاش .
د. عبد المجيد زراقط. كاتب واكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي