د. فاطمة شحادي، من رواية: " والجحيم إذا تنفس" / جريدة الأيام الإلكترونية
لا تخافي، نحن لا نفعل حرامًا... وإن فعلنا نستغفر الله، أليس هو التّوّاب الرّحيم!
بدأت إيناس عملها، حاولت مرارًا وتكرارًا.. وراحت تميل ب" أنتين" التّلفاز يمينًا وشمالًا، مُحاولة البحث عن محطّة، تكون صورتها واضحة... بعد عدّة محاولات... وبينما هي منشغلة بتقليب قنوات التّلفاز تمكّنت من التقاط قناة " lbc " ضحك الجميع، وصفّقن لها، وقفزن من شدّة الفرح، وركضن نحو إيناس يقبّلنها...
كانت المحطّة تعرض إعلانات مُختلفة، وفجأة توقّف الفاصل وبدأ عرض مسلسل لبنانيّ.
كانت فرحة الفتاة لا توصف... حيث تسمرّن على سجّادات الصّلاة، اتّخذنها غطاء للأرض، جلسن عليها، بعد أن وضعن عليها ما طاب لهن من حلويات كنّ قد خبّأنها في خزائنهن...
توجّهت سحر نحو صديقتها زهرة، وقامت بإغلاق عينيها... وُضع قالب صغير من الحلوى أمامها في الوسط، وركضت صباح لتُحضر من جارور خزانة المُشرفة وطفة شمعة وولّاعة... أضاءت الشّمعة ووضعتها في وسط القالب.
ما إن فتحت زهرة عينيها، صفّق لها الجميع، وصُرن يغنين لها: سنة حلوة يا جميل.. سنة حلوة يا جميل.
قطعت سحر الكيك بمسطرة حديديّة، ثمّ وضعت لكلّ فتاة قطعة صغيرة داخل منديل ورقي... اقتربت الفتيات، تأكل كلّ واحدة منهن حصّتها بأصابعها، إذ يُمنع وجود أغراض المطبخ بين أيديهن.
.. بدأ عرض المسلسل، جلست الفتيات بجانب بعضهن البعض يتغامزن ويضحكن! إلّا بتول تُشارك زميلاتها السّهرة من بعيد، تجلس على سريرها تُراقب الأجواء من الأعلى، وحصّتها تصلها إلى سريرها.
لحظات من الصّمت، أنظراهن مسمّرة على جهاز التّلفاز، وهنّ كأصنام لا تقوى على الحراك... كانت هذه هي المّرة الأولى التي يُشاهدن فيها فيلمًا ممتعًا معًا من دون شرطيّ، سئمن برامج التّثقيف الدّيني، والرّسوم المُتحرّكة...
بعد أقلّ من ساعة، بدأ عرض فيلم أجنبيّ، تضمّن بعض اللّقطات الرّومنسيّة، أشاحت بتول بنظراتها عن التّلفاز، وسمّرت وجهها على النّافذة الزّجاجيّة...
شردت سحر بعيدًا. تذكّرت الأستاذ سعيد، وتتالت صورته أمامها، صوته، كلماته... وجمت علامات وجهها، تكوّرت مكانها، ثمّ استلقت جانبًا بعد أن شعرت بنعاس بسيط... وراحت تُفكّر: وهو ماذا يفعل؟ كيف يقضي وقته؟ أترى يسهران معًا الآن؟
انتهى الفيلم، شعرت الفتيات بسعادة كبيرة، بعد أن حقّقن إنجازًا عظيمًا.
فجأة بدأت إيناس بالغناء... فقامت بعض الفتيات يرقصن على أنغام صوتها الشّجيّ، ويقمن بثنيات ذات اليمين وذات الشّمال برشاقة واحترافيّة... تتداخل الضّحكات، والنّكات، يسود الجمع حالة استثنائيّة من الغبطة النّادرة!
في هذه الأثناء، اتّجهت صباح صوب خزانتها، وأحضرت معها شيئًا تُخفيه داخل قبضة يدها. ثمّ رفعت صوتها قائلة:
ما رأيكن أن نجنّ اليوم، ونُجرّب طعم هذا الكائن الصّغير! لنرى إن كانت نكهته كريهة مثل رائحته!
البعض خاطبها مُحذّرًا، والبعض ابتعد جانبًا خائفًا، أمّا إيناس فاقتربت منها وهي تُتمتم:
يلّا.. ولّع... ولّع... لالالالا...
أحضرت إيناس الولّاعة، وأشعلت السّيجارة، ثمّ وضعتها في فمها على مهل، ويدها ترتجف، كأنّها تُوجّه مسدّسًا صوبها: يا الهي.. ما أبشع نكتها!
أخذت صباح السّيجارة منها، وراحت تُمرّرها على أفواه صديقاتها، كلّ واحدة تعبق منها شهقة... ثمّ أشعلت الأخرى.. واستمرّت بالفعل نفسه، وسط هرج ومرج...
اِمتلأت الغرفة بدخان السّيجارتيْن؛ فالشّبابيك مُغلقة والباب كذلك. ووسط هذا الجنون... صرخت بهنّ بتول: " المُراقِبة... المراقِبة تنزل الدّرج!". بسرعة البرق أطفأت إيناس التّلفاز... ثمّ اجتمعت الفتيات وجمعن سجّادات الصّلاة بما فيها من أطعمة وأوساخ، ورميْنها كما هي وراء الباب. قفزن جميعًا بسرعة البرق على أسرّتهن، كتمن أنفاسهن، وغطّين رؤوسهن...
فتحت المُراقِبة الغرفة، الجميع غاف... ضوء خفيف ينبع من اللّمبة الموجودة فوق الباب... همّت بالمغادرة، لكنّها عادت أدراجها... ثمّ أشعلت الضّوء القويّ وقالت: " أشمّ رائحة سجائر.. ما هذا الدّخان؟!" رفعت يديها في الهواء، وهمهمت ببعض الوعيد، ثمّ صرخت قائلة: فتيات... انطقن... قبل أن أُعاقب الجميع!
أخرجت صباح رأسها من سريرها، ثمّ نزلت على مهل، وتوجّهت صوب الباب... شعرت برعشة غريبة تجتاحها، وراحت تنظر بنظرات مُرتعدة صوب المراقبِة المتسمّرة على الباب ...
أنا... فقط... كنت أجرّب طعمها...
أين العلبة؟ ناوليني إيّاها؟!
هي سيجارة واحدة، فقط واحدة، وجدتها على السّطح... لا أملك علبة، أقسم لك، فتّشيني..
د. فاطمة شحادي. الحقوق محفوظة. والأفكار الواردة تعبر عن رأي الكاتبة.
جريدة الأيام الإلكترونية. ثقافة
- علامات:
- إقليمي ودولي