28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

كرسيّ على الزَّبد ، لمحمد علي شمس الدين. تداعيات عن الجميل القتيل . عبد المجيد زراقط /جريدة الأيام الإلكترونية

كرسيّ على الزَّبد ، لمحمد علي شمس الدين. تداعيات عن الجميل القتيل . عبد المجيد زراقط /جريدة الأيام الإلكترونية عبد المجيد زراقط :
" كرسيٌّ على الزَّبد " مجموعة شعريَّة للشاعر الكبير محمَّد علي شمس الدين ( دار الاَداب )، تتألَّف من ثلاث مجموعات هي : " أغاني الكورس " و " تسع قصائد الى حافظ " و "مقاطع الى الجميل " . والملاحظ أن ليس من علامات ترقيم في نصوصها ، كأنَّها جميعها أغنية واحدة من أغاني " الكورس" غنيَّة بالإيقاع على مختلف المستويات : الوزن والقافية والتنغيم المتنوِّع .
قرأت هذه المجموعة غير مرَّة ، وأُعيد الاَن قراءتها ، في هذا الزمن الذي يتكثف فيه صدأ الحياة ، لعلَّ الشعر الجميل يجلو هذا الصدأ ، ويجعل العيش محتملاً ،كما جاء في أصل حكاية الشاعر : " أصل الحكاية أنَّ الشعر كأس طِلى / والخمر أجمل مايروي اذا انسكبا " (ص. ١٤٦). بدا لي ، وأنا أنتقل الى عوالم الحكاية ، أنَّ الكتابة عن هذه المجموعة قد لاتفيها حقَّها ؛ وذلك يعود الى ماعبَّر عنه الناقد العربي الكبير الاَمدي : " انَّ من الأشياء أشياء تدركها المعرفة ، ولا تحيط بها الصفة " ، ومن هذه الأشياء الشعر الحقيقي الذي يتعدَّد ابداعه بتعدُّد متلقِّيه ، وذلك لأنَّه يمتلك فاعلية أن ينشئ لدى كل متلقٍّ، ولدى كلِّ تلقٍّ، نصَّاً جديداً . أُعيد قراءة هذه المجموعة ، ونحن، في زمنٍ ، ننزل فيه درجات جهنم درجةً تلي درجة ، فتتالت في خاطري تداعيات أحاول أن أصوغها في نصٍّ أرجو أن يكون كاشفاً، أو زبدة من هذا الزَّبد الذي يجلس الشاعر على كرسيِّه .
غلاف المجموعة : زرقة بحر يموج ، وراءٍ يجلس على كرسيٍّ فوق مايفضي اليه الموج من زبد .
الزَّبد ، كما هو معروف ، هو خلاصة الشيء وخياره وأفضله ، وهو ما يُستخرج بالمخض من اللبن ، وهو ما يستخرج بالمخض من أحداث الحياة ، وما يستخرج بالموج المرغي والمزبد من البحر .
العنوان : " كرسيٌّ على الزَّبد " دالٌّ على الجلوس المتأمِّل هذا الزَّبد والرَّائي اليه ، وهذا ما يفيده ماجاء في القصيدة الأولى : " عصفورة اسمها الحياة " : " جالساً على مقعد فوق هذا الزَّبد ...وناديت طيري الغريب ليأتي ، أيا نورسي وحبيبي ، فلم يأت ... " ( ص.١٠ و١١) . يحفِّز هذا كلُّه تداعيات أسوقها كما يأتي :
ما تمخَّضت عنه أمواج البحار وأساطير الأرض هو أنَّ عشتار الفينيقية وأفروديت الأغريقية وفينوس الرومانية ...، وهن جميعا اَلهة واحدة ، تشكَّلت من زبد البحر، وخرجت منه ، فكانت الخارجة من الزَّبد ، اَلهةً هي اَلهة الجمال والحب والبهجة والفرح... شغُفت ب"أدونيس" ، الفتى الجميل ، فهجرت مقامها ، وازدرت حبَّ الاَلهة ، وراحت تتبعه في الصَّيد في غابات جبال لبنان ، فاستبدَّت الغيرة بمارس ، وتحوَّل الى خنزير وحشي ، وقتل أدونيس ، فبكته عشتار طويلا ، وأحيته دموعها ، وعاد الجميل مع الربيع...
هذه هي حكاية " الجميل " في الأسطورة ، أمَّا حكايته في واقعنا المعيش الذي ننزل فيه سلَّم الجحيم ، فهي الحكاية نفسها ماعدا فارقاً مهمّاً جداً ، وهو أنَّ الخنزير الوحشي تمثل "خنازير فساد"، نبتت في ربوع هذا الوطن الجميل ، وغدت قادته الى الجحيم ، والخشية أن لا يجد عشتار تحبه وتحييه ، ف"أخوة يوسف" كانوا أرأف بأخيهم من "خنازير الفساد" بوطنهم الجميل ، فهؤلاء الفاسدون أجابوا عن السؤال الذي طرحه الشاعر : " هل تهديه مغلولاً الى " ذئب الهلاك ؟ " بنعم (ص. ٢١) .
الطائر الذي ناداه الشاعر، الجالس على مقعد على الزَّبد ، لم يأت ...، فيقول الشاعر : " أنا تنهيدة الغريق على البحر المسجَّى... "(١٢). ، السؤال : لم ؟ هل يعود السبب الى أن "خنازير الفساد" حوَّلوا الوطن الجميل الى جحيم ؟ ان يكن الجواب نعم ، نسمع صوتاً اَخر . يقول الشاعر : " هي البحار وعكازي على الزَّبد "( ٨٥) . ينزل الشاعر عن كرسيه ، ويحمل عكازه ... تتعدَّد الأصوات ، وتتشكَّل حوارية ، ويُطرح السؤال : ماذا يستطيع أن يفعل طائر في هذا الجحيم ، والشعر، غناء المغني، يغدو عكازاً على الزَّبد ؟
سأل الياس أبو شبكة هذا السؤال عندما قال : "عصفور صغير طار ... طار... ماذا يستطيع عصفور صغير ؟" .
من على الكرسيِّ " ، وهذه المرة تكون الكرسيُّ على زبد بحار الذات. يقول الشاعر : " عصف الموج عصفه في بحاري/ وضلوعي كأن قلبي خليج ... كورس الريح هلّلويا... " . من هذا الموقع ، يقول الشاعر : " فانظر الى مراَة قلبك / لترى جمال الغيب حين يُضاء " (ص. ٧٩) ، واذ ينظر الى مراَة قلبه ليرى جمال الغيب ، يسأل : " أيُّ سرٍّ في الناي أودعه الله ، فغنَّى وصدره مثقوب ؟ ! " ، ويغنِّي ...
يرى الشاعر/ مالك سرِّ الناي المغنِّي وصدرُه مثقوب الى الحياة ، وينظم ل" الكورس " أغانيه ، كما كان يفعل شعراء التراجيديا الأغريقية ، ويغنِّي " الكورس " الشعر في أثناء العرض المسرحي ، في المقدِّمة ، وعند الدُّخول ، وفي بداية كلِّ فصل ، وعند الخروج ، فلمن يغني "الكورس" في هذه المجموعة ؟
يغني للحياة ،ل" عصفورة اسمها الحياة " . هذا هو عنوان القصيدة الأولى من مجموعة : " أغاني الكورس ". يغني "الكورس" لمسرح الحياة ،كي "يغزل غزالاً من ظنونه " ، وبغية تحقيق ذلك يستحضر ، عندما تطير العصفورة / الحياة في الكتاب ، شاعراً عالمياً كبيراً هو حافظ الشيرازي ، ويغني له تسع قصائد ، ويغني ل"الجميل" مقاطع ، لعلَّ الشعر / الأغنية يعوِّض الفقد ، بعد أن " لم يبق شيء سوى الخوف ، ما يجعل القلب كالقنفذ المستباح ، في هبوب الرياح ، "(ص. ١٦١) .
يريد للعصفورة التي اسمها الحياة التي تبني في الأرض عشَّاً ضئيلاً : " حاولي أن تطيري لحظة في الكتاب " ، لترسم خيطاً يفصل فيه المدى عن أخيه الردى ، ويستحضر شعر الشعراء وحكاياتهم : حافظ الشيرازي وجوزيف حرب، " يوسف " المنذور للرؤيا، وامرأ القيس ، ووضاح اليمن وخولة المتنبي ومجنون ليلى والشنفرى وجلال الدين الرومي وشمس تبريز ومالارميه ...يغني لهم ومعهم ويهتدي بهم ، وبرؤى الأنبياء وحكاياتهم : وضوء اَدم و أحزان نوح وهاجرابراهيم التي لم تزل تمشي ، ويقتلها الحنين الى الماء ، وتأويل يوسف وكلام موسى على الطور ، وجبروت داود وحكمة سليمان ، وأُحد محمد ...
تطير هذه العصفورة / الحياة في الكتاب ، وتبيض زبدها ، لكن " الوطن الجميل " الذي نغنِّي له أغنية الشاعر : "أغنية الى الجميل والنحيل " ، ومنها : " قمر الورد على الشرفة يطفو / كان عند الفجر كالفجر بليلا / فجأة / نام على الأرض قتيلا ... " . قتله وحوش هذا الزمان : " خنازير الفساد " و "ذئاب الهلاك " الذين يتجدَّدون منذ ذلك الزمان ، والمأساة تتمثل في أنَّ " عشتار/ أفروديت / فينوس " هذا الزمان يستحضر ماقاله خاتم الأنبياء : " دثِّريني " ، لكنه يضيف ما ينطق بعجزه : " فأنا أرتجف الاَن من الخوف ، وماكنت نبيَّا " ( ص. ١٢٩ )
. كانت هذه تداعيات عن الجميل القتيل ، أملتها مجموعة شعرٍ حقيقيٍّ تملي لكلِّ متلقٍّ لها نصَّاً جديداً.
الدكتور عبد المجيد زراقط. كاتب وناقد. أستاذ الدراسات العليا في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية
المصدر : الدكتور عبد المجيد زراقط.
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية