28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

الخبر نوعٌ قصصيٌّ تراثي ، قصير وقصير جدَّاً . عبد المجيد زراقط /جريدة الأيام الإلكترونية

الخبر نوعٌ قصصيٌّ تراثي ، قصير وقصير جدَّاً . عبد المجيد زراقط /جريدة الأيام الإلكترونية د.عبد المجيد زراقط :
التراث الأدبي العربي غنيٌّ بالقَصص . وأنواعه فيه كثيرة ، منها " الخبر " ، وهو قصيرٌ وقصيرٌ جدَّاً . والقِصَر ، هنا ، سوى الايجاز؛ ذلك أنَّه يمثِّل بنية قصصيَّة ، أي بنية تحدِّد هوية النوع الأدبي ، في حين يُعدُّ الايجاز خصيصة بلاغية من خصائص هذه البنية ، يمكن أن يتوافر في جميع أنواع الأدب، بوصفه خصيصة بلاغية لبنية النوع الأدبي ، وليس بوصفه بنية أدبية تحدِّد نوعاً أدبياً . ويعرِّفه علماء البلاغة بقولهم : " الايجاز هو أداء المعنى الكثير باللفظ القليل " ، ويقدِّمون أمثلة له ، منها قوله تعالى : (# ولكم في القصاص حياة ...#) . وهو قديم قدم الأدب ، وخصوصاً الأدب العربي ، وقد أملته ، في هذا الأدب ، تجربة انتاجه وتلقِّيه ، الحياتية – الأدبية الشفوية . وبلغ من تقدير الأدباء العرب له أن قالوا : " البلاغة الايجاز " .
ولما كانت الثقافة العربية شفوية اتصف أدبها بالإيجاز ، ومن هذا الأدب "الحديث " ، الذي وُصف ، في ما وُصف به ، بأنَّه " أبكار كرم يُقطف " . والمحدِّث البارع كان يجيد رواية " الخبر " ، الطريف والنادر ، المسلِّي والممتع ، والناطق بدلالة كاشفة واقعاً أو حالة أو موقفاً او شخصية ... ، وقد تمَّ جمع هذه الأحاديث وأخبارها في كتب كثيرة ، منها : البيان والتبيين للجاحظ ، وزهر الاَداب للحصري القيرواني ، والمحاسن والمساوئ للبيهقي ... ، كما تمَّ تأليف كتب في أخبار فئات من الناس ، مثل أخبار الأذكياء لابن الجوزي الذي كان يسمِّي أخباره بأسماء منها : " طُرَفٌ مِن فِطَن " . وهذا الاسم دالٌّ على نوع أدبي هو " الخبر " يتصف بعدة خصائص ، منها : الخبر القصير المؤدي قصة كاملة سهلة الفهم ، الطَّريف ، المسلِّي الممتع ، المأخوذة مادته القصصية من الحياة اليومية المعيشة ، لأناس معروفين ، مايعني رواية أخبار الانسان العادي ، وبهذا تتميز شخصيات القصص العربي القديم بما تتصف به شخصيات القصص العالمي الحديث . هذا الانسان العادي الفرد ذو فطنة وظرف ، ، يرى الى عالمه وقضاياه من منظور عقلٍ نافذٍ الى حقائق الأمور ، يقدم رؤية مضيئة كاشفة طريفة ، تتصف بهذه الخصائص أو ببعضها ، أو باحداها : الادهاش والمفاجأة والكشف والسخرية ...
ولنقرأ نماذج من هذا النوع الأدبي ، ولتكن قصيرة جدَّاً :
_ " قيل لرجل ، من العرب : قد نزلت بجميع القبائل ، فكيف رأيت خزاعة ؟ قال : جوع وأحاديث ! " . يتصف هذا الخبر ، والأخبار التي تليه ، بخصائص كثيرة ، منها : قصر الحجم ، وقصر العبارة وبساطة تركيبها . وبالإيجاز . ودقة أداء اللفظ . وقلَّة الشخصيات ، ووصف الشخصية الرئيسة بامتلاك خبرة تسوِّغ اجابتها، وبالطرافة والفطنة . ونلحظ ، في هذا الخبر ، ثنائية تتصف بها القبيلة المعنيَّة ، تجمع الجوع الى الحكي ، والعلاقة بين طرفي هذه الثنائية هي الفقر والعجز ، فالفقير العاجز يداوي عجزه بكثرة الحكي ، وهذه ثنائية يتصف بها هذا الانسان ليس في ذلك العصر فحسب ، وانما في كل زمان ومكان ، ولعلها تصف العرب في هذا الزمان ، وهم الذين انتصروا في الاذاعات في حرب ١٩٦٧ ، على سبيل المثال .
_ "وعظ فقيه أميراً ، فأنفذ اليه الأمير مالاً قبله ، فلمَّا عاد الرسول ، قال الأمير : كلنا صياد ، ولكن الشباك تختلف . " .
نلحظ ، في هذا الخبر ، ثنائية الأمير والفقيه ، وبلغة أيامنا السلطة والمثقف ، أو نوع معين من المثقفين ، الكاشفة العلاقة التي تقوم بينهما ، فكلٌّ منهما صياد مصالحه ، ولكن الشبكة التي يستخدمها في صيده تختلف ، وهذا الكشف يصدق على الصيادين ، من الناس ، جميعهم . ولا يفوتنا المجاز هنا المتمثل بالصورة الحسية – العقلية الملموسة والمدركة . ونترك للقارئ أن يلحظ سخرية المثقف من السلطان وهزأه به ، اضافة الى احتجاجه واعتداده بنفسه ، وهو الضرير ، في هذا الخبر :
_ " قال المتوكل : أشتهي أن أنادم أبا العيناء لولا أنه ضرير . فقال أبو العيناء : ان عفاني أمير المؤمنين من رؤية الهلال ونقش الخواتم ، فاني أصلح . ".
ولنلاحظ السخرية الكاشفة حالة وشخصية وموقفاً ، في هذا الخبر :
_ " وقف أبو العيناء على باب صاعد ، فقيل له : هو يصلي ، فانصرف وعاد ، فقيل له : في الصلاة ، فقال : لكل جديد لذة ." .
وأترك للقارئ أن يلاحظ مافي هذين الخبرين من جمالية قصصية :
_" نظر الأصبهاني الى أبي هفان يسارّ رجلاً ، فقال : فيم تكذِّبان ؟ قالا : في مدحك . " .
_ " قعد صبي مع قوم يأكلون ، فبكى ، قالوا : مالك تبكي ؟ قال :
الطعام حارٌّ . قالوا: فدعه حتى يبرد . قال : أنتم لاتدعونه ." . كما أترك للقارئ أن يعود الى الكتب التي تروي هذه الأخبار ، فيتسلَّى ويستمتع بالجمال الأدبي التراثي وبفِطَن شخصياته ، في هذا الزمن الذي يتأكد فيه قول أهمِّ قاصٍّ ، وأعني الجاحظ : " خير جليس ، في الأنام ، كتاب ... " .
الدكتور عبد المجيد زراقط. قاص وروائي وناقد. أستاذ الدراسات العليا في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية