28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

د. رامز حوراني/ سنابل الشعر، رحلة في حقول الشاعر جوزف حرب. بقلم: عبد المجيد زراقط/جريدة الايام الالكترونية

د. رامز حوراني/ سنابل الشعر، رحلة في حقول الشاعر جوزف حرب. بقلم: عبد المجيد زراقط/جريدة الايام الالكترونية العنوان رحلة في حقول جوزف حرب، ما هي حقوله؟ هي الشعر. هذه الحقول، تنبت وتخصب وتُسَنْبل، وتكون الرحلة ، في حقول شعر جوزف حرب، قطف ما سنبله، وتبيّن ما تحتويه من جنى على مستوى الخصائص الشعرية والرؤى التي تنطق بها.
في هذه المقالة القصيرة التي يقتضيها المقام ، قراءة في هذه الرحلة المتمثلة في كتاب صدر في حلّة أنيقة عن دار البيان العربي، يحمل علامة هي صورة المؤلف وهو في حالة تأمُّل وتفكير، وعيناه ترصدان الإبداع المتمثّل سنابل تنحني للقطاف.
هي رحلة في سبيل تحصيل المعرفة/ الجنى الشعريّ إذًا، يبدأ الرحالة ، بعد اتخاذ قرار الرحيل، بإجراء منهجي، فيسوّغ قيامه بهذه الرحلة، فيسأل: مخاطبًا القارئ: عزيزي القارئ، لماذا جوزف حرب؟ ويجيب: ما يسوِّغ اختيار هذا الشاعر ثلاثة أمور: أولها وفرة شعر حرب/ الكم وتميُّزه/ النوع، وثانيها فرادة الصور الشعرية المبتكرة/ العذراء في هذا الشعر، وجمالية بنائه الشعري، وثالثها الرؤى الشعرية إلى موضوعات الحياة المعيشة على مختلف المستويات: الدينية والاجتماعية والسياسية والإنسانية والجمالية، ما يعني فرادة شعر جوزف حرب على مستويي البنية الشعرية الجمالية ، من نحو أول ، والرؤى الشعرية إلى موضوعات الحياة المعيشة من نحو ثان. فشعره يصدق وصفه بأنه حقولٌ تترامى فيها السنابل الذهبية المتمثلة بحبَّاتها، والرّائية إلى روّاد قطافها القادرين على النفاذ إلى الجوهر الشعري، الممتلك جاذبيّة كأنّها السحر الحلال ، وليد الخيال الخلاق.
يتميز الشاعر جوزف حرب، الشاعر العربي الكبير، بأنّه الشاعر المبدع باللغة العربية في مستوييها: الفصحى والمحكية، ما جعل الأخوين رحباني يجدان ضالتهما في كثيرٍ من نماذج شعره، ويلحنانها، وتغرّد بها سفيرتنا إلى النجوم ، فيروز ، فترسل الى سماء لبنان الجميل نجومًا تشعُّ جمالًا وفرحًا، وهذا يؤتيه الروح الآخر للشاعر، وهو الشعر ، روح الحياة وجوهر الوجود وقدس الأقداس وريّ الظامئ إلى الأحلى في دنيا الراحلين إلى جني الحلى من سنابل الجمال.
هؤلاء الراحلون يجتازون ست مراحل/ مقامات :
أولاها الإنسان، وفيها تُسترد أصالة الإنسان المهمّش في الأرض التي حوَّلها طغاة البشر إلى غابة . هذه الأصالة مقدَّسة قداسة الأم الأولى، أمُّ البشر، الأرض، فيصغي الشاعر الى أصواتها، ويصوغها وينشدها. ويحيِّي الذين ينشدون العمران فيها بأكفّ نقية، فتنبت الأرض الأم والوطن السنابل، ويحميها الإنسان الأصيل من سارقي الجنى،
وثانيتها الشعر الرسالة والشاعر الرسول، حادي الرّحلة، الذي يخرج الشموس في عتمة القاموس،
وثالثتها إشراق هذه الشموس الساطعة على الطبيعة الكاشفة مشاهدها وهي قصائدها،
ورابعتها رؤاه إلى العلاقة بين المرأة والرجل، الحبّ، في تمثلها الإنساني، وخامستها الرؤى إلى الوجود، وفيها يتمثل الفكر لغةً شعرية رائية إلى قضايا الوجود الإنساني، والرؤى الفكرية إليه . تكشف هذه اللغة ثوابت فكرية منها أن الله سبحانه وتعالى هو العدل الجليل، وأن الانسان الذي يعمّر أرض الله هو المقدس، وأن الحب هو ماء الوجود، وأن العقل هو مفتاح أسرار الكون والمصباح الكاشف حقائقه.
وسادستها إصغاء لشهادات راحلين سابقين إلى قطاف سنابل الشاعر الكبير، وجميعهم شعراء كبار من لبنان وسوريا ومصر.
جوزف حرب (1943 ـــ 2014) كما عرفه د. حوراني شاعر من لبنان الجنوبي، من بلدة المعمرية التابعة لقضاء الزهراني، مجاز في الحقوق وفي اللغة العربية وآدابها، غنت فيروز قصائد له. أعدّ برامج إذاعية ومسلسلات تلفازية، أصدر نحو عشرين مجموعة شعرية بالفصحى والمحكية، منها مجموعة "المحبرة" التي تجاوز عدد صفحاتها 1750 صفحة، وهي أكبر مجموعة شعرية عربيّة، تولى الأمانة العامة لاتحاد الكتاب اللبنانيين لدورتين. تفرّغ لحراثة حقوله الشعرية وبذارها فأخصبت، وسنبلت، ومشى الغاوون إلى القطاف، وكان للدكتور رامز الحوراني أن مشى في رحلة من ست مراحل تمثلت في هذا الكتاب الذي نحتفي به، ونهنّئ صاحبه بإنجازه المهم في مجال التعريف بشاعر كبير من شعراء العربية وبشعره المتميّز على مستويي البنى والرؤى الشعرية.
من السنابل الشعرية التي يقطفها الباحث. نقدم بعض النماذج: - "وتعال نعمِّر هذه الأرض التي قد طارد الكهان/ فيها الورد، وانتشروا حرابًا بين نهديها/ ليغتالوا مع الدّم منهما لبن الولادة". تتمثل في هذا المقطع ثنائيتان: أولاهما المؤمن# الكاهن، وثانيتهما الأرض# السماء . وهب المؤمن ما يملكه للناس وللحياة، وطارد الكاهن الورد في الأرض، والورد دالّ على كلّ جميل عطِر في الحياة، ، وهنا تأتي صورة شعرية فريدة هي بين نهدي الأرض/ الفتاة، ليغتالوا مع الدم منهما لبن الولادة، فيغتالون بهذا الحياة، والأطفال . وإذ يفعلون هذا، يهتف الشاعر، تعالوا نعمر هذه الأرض، وإذ نفعل هذا على الأرض تفتح لنا السماء أبوابها، لكنّ الكاهن والتاجر وصاحب السلطان يسعون إلى اقناع "كل البسطاء/ أن يبقوا من أجل صعود الجنة/ ناسًا فقراء". وراحوا يخدعونهم بأن جعلوا كلام الله لعبة في أياديهم "ملأوا ظهرها قبلًا/ ملأوا بطنها ذهبًا".
- من الصّور الفريدة المبتكرة المشعّة بالدلالات، نذكر: الأرض قصر " أبوابه جلود أطفالٍ إذا ما فُتحت أنّت"، و"للقصر سيّدة تجاوز عمرها زمن اكتشاف النار، ضاجعها جميع المجرمين"، ما يثير السؤال: "إلى/ أين نمضي/ وأقدامنا المطفآت زوايا زنازين نسمع فيها سعال خطانا، وعمق الجهات مرايا في الوطن/ تمتص زيت المصابيح فينا/ هربنا إلى أمسنا/ كان أعمى..."، ويكون الخلاص "لما يشقّ الفقير الأخير/ جبين الغنيّ الأخير بآخر سيفٍ/ تكون جمع أكف المساكين في كفّه...".
تتخذ القصيدة بنيةً سردية تروي قصة تحويل المجرمين الطغاة الأرض، الأمّ الأولى، الأبهى، إلى قصر أبوابه جلود أطفال إذا ما فتحت أنّت، فيكون أنين الأطفال متواصلًا طوال تاريخ الطغيان، ما يشكّل فضاء البؤس. فضاء لا يُحتمل العيش فيه، ولا يجدي الهرب منه، ما يقتضي حتمية التغيير بغدوِّ الأكفّ كفًّا واحدًا. تُروى هذه القصة بلغةٍ شعرية تشع فيها الصّور الشعرية بالإضاءات الكاشفة الدّالة الممثلة للفاعلية الجمالية الدلاليّة.
وإذ تتوحّد أكفّ المساكين، وتُشقُّ بسيوفهم جباه الطغاة، وتصبح الأرض كما يقول حوراني ، قمصان نسيم، وأيقونات ماء، وقمح يأتي على فرس تراب، وغلال تنضجها مرايا الجمر...
هوذا حلم شاعر، جمال حلم، صنيع جمال اللغة، يتوجه به الشاعر، كما يتبين حوراني إلى الانسان أينما كان على هذه الأرض، فيكون الحلم حلم الإنسانيّة، يؤتاه ويؤتيه شاعر كأنّه رسول ينطق بنبوءة تسري، وعلى أكتافها قطع الغمام جرار، وإذ يحققها الإنسان يكون سيد الأرض بعمله وحكمته وإبداعه... وهكذا يبدع الشاعر جوزف حرب حلمه، ويتبينه الناقد رامز الحوراني بلغة بسيطة سهلة واضحة متينة في آن، فيكونان سيدين من سادة هذه الأرض الذين تكون خطاهم مثل خطى الأنهار في حقولٍ، تجري فيها وتكسوها ثياب الاخضرار.
في هذا الكتاب ، قراءات نصيّة في خمسة فصول، حاولنا ، اَنفاً ، بإيجاز يقتضيه الوقت المتاح لمقاربة قصيرة ، تقديم معرفة بما تتضمنه. والفصل الأخير يتضمن ما قاله الشعراء المعاصرون للشاعر جوزف حرب فيه، فكان فصلًا يتضمن كلام الشعر على كلام الشعر، أو كشف لغة الجمال بلغة الجمال، القائلة بلسان الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين، رحمه الله سبحانه وتعالى: "فأوّلت السنابل/ وابتكرت الناي من القصب والخيال"، وهذه صوره مبتكرة دالة على صنيع حرب الذي ابتكر نايًا فريدةً، قصبها من قصب الخيال، ما أثار السؤال: "أعبرت حقًا في السحاب، وأنت حرٌّ كالسحاب...؟".
يخلص الناقد رامز الحوراني، إذ يحط عصا الترحال، فيركّز الخصائص العامة في شعر الشاعر جوزف حرب، فيرى، في ما يرى، أنه حلم بانصاف المهمشين فكان ثائرًا وفّق بين الأيديولوجي والجمالي، تضمّن شعره ثنائيات عنوانها المرفوض# المنشود، وتميز شعره، بجمالية الإيقاع المتنوّع بين الموزون المقفى والتفعيلي، والتنغيم وجمالية الصور الشعرية المبتكرة المتمثلة في لوحات شعرية مدهشة.
بهذا كلّه قدّم الناقد الحوراني معرفة بالشاعر العربي الكبير جوزف حرب وبشعره، من حيث البنى والرؤى بلغة سهلة واضحة متينة في آن، دقيقة الآداء عميقة ما يستحق منا القول له: مبارك عطاؤك المتميز وإلى المزيد منه.
د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي.
جريدة الايام الالكترونية. بيروت