عبد المجيد زراقط، هؤلاء تعلمت منهم.. حسن الامين/ جريدة الأيام الإلكترونية
عبد المجيد زراقط، هؤلاء تعلمت منهم.. حسن الامين/ جريدة الأيام الإلكترونية

هؤلاء تعلمت منهم(٢١)
قيل لي: اتَّصل بك السيد حسن الأمين ، ويريد أن يراك.
لم تكن لي معرفة شخصية به،لكنَّ معرفتي باتصاله بي أثارت فيَّ ارتياحاً، يعود الى تلك الصورة التي تسكن ذاكرتي عن والده ،المغفور له، السيد محسن الأمين ( رضوان الله عليه)، فقد نشأت في بيت يُجلُّه ، ولا أنسى، مهما تقدَّم بي العمر ، أن جدي الحاج مصطفى زراقط ، رحمه الله، الذي كان يلزم بيته في معظم أوقاته ، ولا يفارقه ، كان يذهب الى قرية شقراء، عندما كان يأتي اليها السيد الأمين ، ليلتقيه ، ويصلِّي خلفه ، ويتزوَّد من علمه ، ويعود ليُشيد به ، ويعدِّد ماَثره...
لبَّيت دعوة السيد حسن الأمين ، وبي قلقٌ وتهيُّب ، مالبثا أن أخليا مكانهما لطمأنينة وفرح... . وهذا مااعتدت أن أشعر به ، في مابعد ، كلما التقيته.
لم يطل الكلام على التعرُّف ، كان قد استنتج من أكون ، فقد كانت معرفته الوافية بقريتي مركبا وأسرها وأبنائها، وبي وبكتابي :
" الشعر الأموي بين الفن والسلطان " مدخلاً لحديث طويل عن جبل عامل وقراه وأسره ، ثم عن طرق تحصيل المعرفة وتقديمها.
مابقي ، في الذاكرة ، من أقواله:
- أنت بحثت في الشعر العربي ، و في تأثير السلطان في تطوُّره ، لكنَّ بحثك بحثٌ في التاريخ أيضاً...
فوجئت . توجَّهت اليه بنظرات مستغربة سائلة . ابتسم ، وأضاف: لدراسة الشعر ، ينبغي أن نعرف الظروف التي أنتجته ، وأن نقرأ القصيدة كاملة ، وبهذا نصل الى مزايا الشعر ومعناه ، وهذا مافعلته أنت في كتابك ، الذي حرصت على أن أقرأه منذ عرفت بصدوره... ولهذا اتصلت بك ، أودُّ أن أهنِّئك...
قلت: كأنَّك تتحدَّث عمَّا نسمِّيه المنهج الاجتماعي ، البنيوي التكويني ، في البحث ، وهو المنهج الذي استخدمته في كتابي هذا.
ابتسم، وقال: أنا لم أطَّلع على المناهج الحديثة.
قلت: المناهج يصنعها العلماء ، ونحن انَّما نفيد منكم ، أنتم الباحثون الكبار، في استقاء أصول مناهجنا.
ضحك ، وقال: بدأنا نجامل ... لا عليك ، أنت لم تعرفني بعد... ستكثر لقاءاتنا ، لذا ، لستَ بحاجة الى مجاملتي في شيء ، وبخاصة في الأمور العلمية.
بقيت ساكتاً، فأضاف:
- أمر اَخر... التراث العربي الاسلامي وحدة معرفية ... ، المؤسف أن الكثيرين يلغون الاَخر منه، لأسباب ، أهمُّها المذهبية ، فيحذفون قسماً كبيراً من التراث العربي الاسلامي ، فان كان لبعضهم عذر لانقبله ، وهو المذهبية ، في ظلم شعراء كبار ، فما عذر من لايختلف مع هؤلاء مذهبياً!؟ هل يريد أن يتخلَّى عن ذاته ليقبله الاَخر!؟ انَّه ، في هذه الحالة، يتخلَّى عن ذاته ، فلا يكونها ولا يكون الاَخر، وهذه هي المصيبة الكبرى في كثير من رجالاتنا على مختلف المستويات ، وفي العلاقات مع الاَخر المحلِّي ، والاَخر الغربي كذلك. المهم أن تعي ذاتك ، وأن تكونها قولاً ، وفعلاً، من دون ازدواجية.
قلت: أنا كتبت معتمداً منهجاً علمياً، مرجعه ماركسي ، ولم أستخدم مصدراً شيعياً واحداً ، وفُجعت بموقف الأستاذ الجامعي الكبير ، والباحث الذي تملأ كتبه رفَّاً في المكتبة العربية ، من الفصل الذي كتبته عن الشعراء الشيعة ، وصراخه بي: الأمويون سادة الدنيا... ، ماذا جئت تفعل أنت(...) برسالتك هذه !؟
فقال: لاتخف. ابحث عن الحقيقة ، في مظانِّها، ولا تدَّخر وسعاً في الوصول اليها ، وان حصَّلتها ، واقتنعت بما توصَّلت اليه أعلنها ، ولا تخش لوماً . هذا ماأفعله أنا . المهم أن يكون العقل رائدك، فالامام علي ( عليه السلا) يقول:
" ما عُبد الله بشيء أفضل من العقل" . انك، اذ تحكِّم العقل ، في مختلف أمورك ، انَّما تكون قد قمت بفعل عبادة...
دُهشت حينها : تحكيم العقل فعل عبادة!؟ أنا لاأنكر أنِّي لم أكن على دراية ، في تلك الأيام ، بهذه الرؤية الدينية ، فقلت للسيد الذي كان يراقب الدهشة المرتسمة على وجهي : أتدري أنك فتحت أمامي طريقاً لم أكن أعرفه ؟
قال: هو طريق طويل ، وعليك أن تسلكه ، أتعدني؟
قلت : أعدك.
ومنذ ذلك اليوم، بدأت أفي بوعدي ، واستأنفت رحلتي ، ومعي زادٌ ماانفك يربو ، ويتجدَّد في كل لقاء مع السيد حسن الأمين، وهو قول الامام علي( عليه السلام):
" ماعُبد الله بشيء أفضل من العقل".
في اَخر لقاء لي مع السيد حسن الأمين، وكان قبل وفاته بأيام ، وجدته بين أوراقه وكتبه ، يعمل كعادته بهمَّة الشباب ، حدثني عمَّا أنجز وعمَّا سوف ينجز... ، ثم ابتسم ، وقال:
- يبدو أنِّي أسابق الزمن... ، ويبدو أن علاقتي بهذا الرفيق القديم التي امتدَّت حوالى قرن تقترب من نهايتها...، وأخشى أن يسبقني ، فتبقى هذه الأوراق أوراقاً...!
وحدَّق فيَّ طويلا ، وقال : هل أعتمد عليك في اكمال الرحلة ، رحلة هذه الأوراق، لتكمل الموسوعة الاسلامية ؟
وقلت : أكيد.
( لم أتمكَّن من تنفيذ هذا الوعد ، لأسباب لاعلاقة لي بها).
هزَّ رأسه، وترنم ببيت من الشعر:
أُأَمِّل مالا يبلغ العمرُ بعضه ،
كأنَّ الذي بعد المشيب شبابُ.
وان من يعرف السيد حسن الأمين يستطيع القول:
يمثِّل العلاَّمة المؤرخ والأديب السيد حسن الأمين (١٩٠٨ - ٢٠٠٢) أنموذجاً للمثقف الذي قلَّ وجوده في حياتنا الثقافية ، فهو العلَّامة موسوعي المعرفة من نحو أول ، والمتفرغ الى أبحاثه ينجزها مهما كلفه ذلك من مشاق من نحو ثان ، والقادر على تحصيل معرفة موضوعية بأحداث التاريخ وشخصياته وأموره وتقديمها بوضوح وشجاعة فائقة من نحو ثالث ، والمؤرخ الأديب القادر على صوغ الحقيقة في لبوس يمتع القارئ من نحو رابع، والصديق المحبَّب الى طلاب المعرفة ، يحتفي بهم ، ويقدم لهم مايتوافر لديه من كتب ومعلومات وخبرة ، ومن حبٍّ ينشئ علاقات انسانية حميمية من نحو خامس، والمحدِّث اللطيف اللبق الذي يجيد المزج بين الجد والمزاح الراقي من نحو سادس ، والرحالة الأديب الذي أتحف الأدب العربي بنصوص أدبية رحلية متميزة ، من نحو سابع، والشخصية الوطنية القومية المواكبة أحداث الحياة ، والفاعلة فيها، والقادرة على اتخاذ المواقف المنبثقة من نهج وضعه الدين الحنيف ، وأرساه الأئمة الأطهار والعلماء الكبار عندما عملوا بمنطوق الاَية الكرية(# وقفوهم انهم مسؤولون#) من نحو ثامن. والمحقق الذي أحيا تراث والده من نحو تاسع، والشاعر الرقيق من نحو عاشر...
د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي - ناقد أدبي. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت