عبد المجيد زراقط، مقدمة كتاب" دماء في المآقي" للشيخ حسن عياد/ جريدة الأيام الإلكترونية
عبد المجيد زراقط، مقدمة كتاب" دماء في المآقي" للشيخ حسن عياد/ جريدة الأيام الإلكترونية

تعرَّفت الى فضيلة الشيخ حسن عيَّاد في النَّدوات الأدبيَّة النَّقديَّة التي كنت أشارك فيها .
لفتني ، منذ أوَّل لقاءٍ به ، اقباله على محدِّثه بابتسامةٍ مشرقه ، واصغاؤه لحديثه باهتمام ، وحواره الجادِّ معه . ولاحظت أنَّه عندما يُعطى الكلام له ، بعد انتهاء أحاديث المنتدين ، يتحدَّث عمَّا قدَّموه من معرفة ، مركِّزاً على ما أثيرمن اشكالات ، حديثَ من أصغى باهتمام ، والعارف بكلِّ ماقيل ، فيعلِّق ، ويحاور، بلغة لاتخلو من شعرية.
يقدِّم الشيخ معرفة بنفسه ، في هذا الكتاب ، فيكتب بلغة شعرية منثورة ، دالَّة دلالة غير مباشرة على ولادته ونشأته : " زرعتني الحياة في فضاء سقفه من خشب ، يقوم على عمدٍ من طين ... ، حياتي كانت حبالُ أيَّامها منصوبة بنهرين من دموع ودم " . ويقدِّم معرفة بالواقع المعيش في قريته ، فيتحدَّث عن المدرسة التي تعلَّم فيها ، بوصفها أنموذجاً دالاً على ذلك الواقع وباللغة الشعرية المنثورة نفسها : تعلَّمت ، في المرحلة الابتدائية " ... ، في غرفٍ متناثرة عتيقة ، تُسمَّى المدرسة ، تتوزَّع في عيترون ، تتقاسمها الأحياء... ".
يتعلم ، ويعمل ، ويسافر ، فيرى كثيراً من البلاد ، ويعاشر فيضاً من العباد ، ويعود الى موطن الهدى ، الى الحوزة الدينية العلمية ... ، وقد نذر مايملكه من مواهب وقدرات ، ومنها الموهبة الشعرية ، للعزِّ الذي لايمكن له أن يكون الا لله ، عزَّ وجلَّ والرسول ( صلى الله عليه واَله وسلم ) والمؤمنين الكرام.
وإذ نلحظ مواهبه وقدراته هذه ، ونبدي اعجابنا بفاعلية خطابه الجمالية الدلالية ، نسأله ، عمَّا كتب ، فيجيب بأنَّ لديه مخطوطات كثيرة ، فنسأل : لمَ لاتنشرها ؟ تتسع ابتسامته ، وتزداد اشراقاً ، ويجيب : قريباً نفعل ، ان شاء الله ، تعالى ...
ويشاء الله ، سبحانه وتعالى ، ونجد كتابه " دماء في الماَقي " بين أيدينا.
يفيد مايقوله الشيخ عن كتابه هذا أنَّه كلمات يفيض بها القلب ، فيزرعها كتاباً . اللغة التي تعرِّف هذا الكتاب شعرية منثورة ، ترسم صورتين : أولاهما امتلاء القلب بالمشاعر وفيضها ، وثانيتهما زرعها كتاباً لدى المتلقي . والزرع لابدَّ من أن ينبت ، وينمو ويثمر ، فتتشكل علاقة بين الكاتب والمتلقي هي العلاقة بين القلب ، ينبوع الكلمات ، ونفوس المتلقين . الكلمات تفيض من النبع و تصبُّ في النفوس.
والقلب ، كما نراه في صورة أخرى ، تشع بالدلالات ، هو " شجرة لها أغصان كثيرة كثيفة ... ، عليها تقف بلابل الأيام " . تغرِّد هذه البلابل ومنها البلبل المغرِّد في هذا الكتاب ، بما تؤتيه الأيام من تجارب ودلالات ، ويصغي اليها المتلقون في فضاء من الكشف والمتعة الجمالية.
موضوع هذه الكلمات التي يفيض بها القلب هو سيِّد الشهداء ، وامام الثوَّار الأحرار ، وصانع نهج الثورة الدائمة من أجل سعادة الانسان في الدارين ، الامام الحسين ( عليه السلام ).
يرحل الشيخ ، في كتابه هذا ، الى امام الهدى " على مركب الوجدان " ، فيراه مثل الشمس التي يرضع من ثديها النهار ، فيشعُّ الكون بالنور ، ويعمر بالعطاء والجنى.
ان يكن الأمر هكذا ، فلمَ الدماء في الماَقي ؟ هل هي الدموع الساكنة في العيون يتحوَّل بها شجى كربلاء الى دماء ؟
نلتقي ، في هذا الكتاب ، اجابات عن هذين السؤالين ، منها : " كتبت للجرح الذي يأخذ شكل الابتسامة " . هو اذاً جرح ينقط دماً ، ويصنع ابتسامة . هو ثورة كربلاء مأساة انسانية / جرح ، غير أنها صنعت تاريخاً من الثورات ، طوال الزمن / ابتسامة في ثغر الزمان ، أو هي كربلاء التي صنعت الزمان الابتسامة.
وهو زمان الانسان الذي يكون دمه وقود سفره الى الله ، سبحانه وتعالى ؛ حيث يصنع جنانه على الأرض، ويرقى الى جنانه في السماء ، فيعود الى موطنه الأصل ، موطن جدِّه اَدم الذي أٌهبِط الى الأرض ليُختبر ، وتكون حياته فيها ، ان توصَّل الى مرتبة الكمال ممرّاً الى جنان الخلد.
نقرأ ، في هذا الكتاب : " الدنيا بابٌ للعبادة ... ، والدنيا ممرُّ العابدين الى الجنان " . والعبادة هي المضيُّ في طريق الحق .
وان كانت العبادة زهداً ، فالزهد ليس ابتعاد الانسان عن معركة الحياة ، والوقوف موقف الحياد من الفساد والاستبداد ، فهذا الزهد " جناح للباطل " ... . هذا النوع من الزهد ليس عبادة ، العبادة الحقَّة هي " زيت في سراج يضيء للحقيقة أبداً منارها " . بهذا ، أي بهذه العبادة ، يكون جناح الحرِّ التقي دمَه المبذول في سبيل احقاق الحق ونيل رضى الله ، وهذا الدم هو الذي يخصب الأرض بنعم الله ، سبحانه وتعالى.
وأرقى صنوف العبادة الشهادة في طريق احقاق الحق ، والشهيد هو الذي يرقى بجناحين الى السماء : سماء العزِّ في الدنيا ، وسماء الجنان في الاَخرة ، ويتصل برافع السماء وباسط الأرض ... ، الخالق العظيم ، ويشعل دمه سراجاً ، فيتحول الدم الى نور يضيء . هذا هو الشهيد ، فكيف اذا كان الشهيد هو الامام الحسين !؟
هذه هي دلالة " دماء في الماَقي " كما تفيد قراءة حلقات هذا الكتاب ، ومما نقرأ فيها ، في هذا المعنى :" انك ، أخي القارئ ، لن تستطيع أن تنظر الى النور المحتجب بالنور، الا اذا تطلَّعت بقلبٍ يتغذَّى بالدم ،لأنَّ القلب لايرى الا اذا كان مساحة للشهادة " .
يتضمَّن هذا الكتاب سبع عشرة حلقة ، والحلقة جزء من سلسلة ، مايعني أنَّ الحلقات لاتنتهي ، في هذا الموضوع ، المؤدّى بلغة نثرية شعرية ثريَّة بالدلالات ، من نماذجها ،على سبيل المثال : " ليس جميلاً أن تكون الحياة ثوباً خيوطه الأيام الفارغة من المعاني " ، " أبي الذي سيظل يسكنني سكون النور في البصر " .
واذ يتلقَّى القارئ هذه اللغة ، يتبيَّن دلالاتها ، في فضاء المتعة الجمالية الأدبية ، والكاتب يحرص على أن تكون لغته مشبعة بدلالاتها ، وأن يعقد صلة مباشرة بقارئه ، فيخاطبه ، في غير موضع من كتابه ب " القارئ الحكيم " ، و" أخي القارئ العارف اللبيب " ، و " القارئ الحبيب المؤمن " ، " هذا الحرف من قلبي اليك " ويريد منه أن يتلقَّى نصوصه ، ويؤوِّلها بفهم ثاقب ، ويتبيَّن دلالاتها ، فيكون شريكاً في انتاج النص.
يتوجه الكاتب بهذا الخطاب الى الأمة الاسلامية ، وليس لأيِّ رئيس، أو زعيم ، ويؤكد أنه اذا كانت الأمم تفتخر وتعتزُّ بعظمائها ، فكيف بأمة يكون الامام الحسين ( عليه السلام ) امامها ، فهو من قال فيه نبي هذه الأمة ( صلى الله عليه واَله وسلم ) :" حسين مني ، وأنا من حسين " ...
واذ يؤكد هذا ، يخاطب اخوته في الدين ، من أدنى بلاد المسلمين الى أقصاها ، ويقول : من كان يهوى السبط فليحمل على كتفيه أعباء القضية ، قضية الانسان ، خليفة الله ، سبحانه وتعالى ، في الأرض ، وليعمل على اقامة دولة العدل ، ليفوز بالنعيمين : نعيم الدنيا ونعيم الاَخرة..
هذا الكتاب هو " قارورة وجد وشعور " ، تُهدى الى القارئ اللبيب ، وهو باكورة عطاء جميلٍ ، نرجو أن يتواصل ..
د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي- ناقد أدبي - قاص وروائي