28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

بنات أفكاري ، حرفٌ وعزف ، ليوسف نظام الدين فضل الله ، إنذار القلب صوتٌ مهيمن ،.عبد المجيد زراقط / جريدة الأيام الإلكترونية

بنات أفكاري ، حرفٌ وعزف ، ليوسف نظام الدين فضل الله ، إنذار القلب صوتٌ مهيمن ،.عبد المجيد زراقط / جريدة الأيام الإلكترونية يفيد عنوان هذا الكتاب أنَّ أفكار الكاتب تلد بناتها ، أي أنَّ مايتضمنه هذا الكتاب هوولادات فكرية جديدة تتمثَّل حرفاً وعزفاً ، أي لغة وموسيقى لغوية.
لكن التصدير الذي يبدأ به الكتاب ، والموجَّه للمخاطبين :" لكم " ، وهم ، كما يبدو ، الشعراء الملتزمون بالوزن والقافية ، يفيد أنَّ لدى الكاتب بحوراً سوى بحورهم ، وأنَّ مرساتهم ، في بحورهم هي القافية ، أي الالتزام بقواعد العروض الشعري ، ومرساته هي منثوره ، مايفيد أنَّ لديه بحوراً جديدة تمثل أفكاره الجديدة .
الأسئلة التي تطرح ،هنا ، هي : أين يتمثَّل العزف الجديد في هذا " المنثور " ؟ هل من موسيقى لغوية جديدة ، تمثل الأفكار الجديدة، في نصوص هذا الكتاب، كما يعد العنوان؟ وهل من منثور شعري مختلف ، جديد، كما يقول التصدير ؟
لنقرأ ، ونحاول تبيُّن الاجابات عن هذه الأسئلة.
نقرأ على صفحة الغلاف الأخيرة: " حرفي عزف الأشواق ...ألحانا / رسمتُ بالبيان عمري ... ألوانا / نشرت أفكاري ... بناتاً ... وعنوانا / بريشة تقطر ... حباً... وتحنانا " .
هذه المقطوعة التي اختارها الكلتب لتكون دالَّة على هوية الكتاب ، تتخذ بنية سردية ، أفعالها عزف ، رسمتُ ، نشرت ، وليس من فعل كتبت ، أو نظمت ، مايعني قصر الحدث على عزف الألحان ورسم الألوان بالبيان، ونشر الأفكار ، مايعني تميُّز نصوص هذا الكتاب بالموسيقى والصور اللغوية.
يلاحظ ، هنا ، أنه ينسب فعل العزف الى حرفه والرسم والنشر الى نفسه ، فهل هذا دالٌّ على أنَّ المَوسقة اللغوية عفوية تلقائية ، وأنَّ الرسم والنشر سوى ذلك، أو أنَّ اقامة الوزن هي التي اقتضت هذا الأمر؟
هذه النصوص تعزف الأشواق وترسم العمر، وتنشر الأفكار بناتٍ وعنوانا ، واستطراداً ، يبدو لي أنَّ كلمة " عنوانا " ، هنا ، استدعتها القافية ، والرسم انما يتمُّ بريشة تقطر حباً وتحنانا ، مايعني أنَّ هذه النصوص تصدر عن تجربة حياتية أدبية معيشة ، تملي المختلف على مستويي البنية والرؤية ، كما وعدنا كلٌّ من العنوان والتصدير ، مايثير سؤالاً هو : ماهي هذه التجربة التي عرفنا حتى الاَن أنَّ من مكوِّناتها الأشواق، والعمر ، والحب والتحنان ؟ نجد ، في الاهداء ، مايدلُّ على هوية هذه التجربة ، وهو القلوب ، ليس النكرة ، وانما المعرَّفة بالألف واللام ، فهي معرفة تتصف بثنائيتين : أولاهما طرفها الأول : الملوَّعة بالصدِّ والهجران ، وطرفها الثاني : البقاء وفيَّة طوال العمر . وثانيتهما طرفها الأول نبض القلوب الملوَّعة بالحب والحنين ، وطرفها الثاني لقاؤها بلا شكوى ولا أنين . السؤال الذي يطرح هنا هو : هل من تكامل بين هاتين الثنائيتين ؟ الجواب : نعم . فما يفيده الاهداء هو أنَّ نصوص هذا الكتاب هي وليدة القلوب الملوَّعة بالصدِّ والهجران ، والتي تنبض بالحبِّ والحنين ، وتعاني من دون شكوى وأنين ، فهل هذه هي تجربة العمر الذي يريد الكاتب رسمه ونشر بنات أفكاره ، بعد أن يعزفها حرفه ألحانا ويرسمها بيانه ألوانا ؟
واذ نقرأ المقدمة ، نجد أنَّ ماكتبه قلم المؤلف ، من بنات أفكاره ، من شعره ونثره ، هو " خلجات الفؤاد بين الأنين والشكوى والفرح والسرور " . مايفيده هذا هو أنَّ المؤلف يكتب ، لايعزف ولايرسم ، وأنَّ مايكتبه هو خلجات الفؤاد ، والفؤاد قلب من تلك القلوب ، لكن فرق بين ماتنبض به تلك القلوب ، كما مرَّ بنا ، وبين ماينبض به هذا الفؤاد كما قرأنا قبل قليل ؟ وهو فرقٌ بين تجربتين أولاهما : الصبر على التلوُّع بالصدِّ والهجران ، وقبول هذا التلوُّع من دون شكوى وأنين ، والوفاء لمن يلوِّع ، وثانيتهما اختلاج الفؤاد بالمعيش من هذه الحياة كما هي : بين الأنين والشكوى والفرح والسرور ، فعن أيٍّ من التجربتين تصدر نصوص هذا الكتاب ؟ وكيف ؟ عزفاً ورسماً ، أو كتابة ، أو كتابة تعزف وترسم ؟ وهل تجربة من يُهدى اليهم الكتاب سوى تجربة من يكتبه ؟ الحقيقة أنَّ مانقرأه يثير هذه الأسئلة ، ويترك الاجابة للقارئ .
نكمل قراءة المقدمة ، فنعرف أن هذا الكتاب يمثل خلجات فؤاد ، يمليها المعيش من الحياة ، وتتمثل صوراً علقت في الذهن ، واَن زمن كشف خباياها ، وهذا يعني أنَّ هذه الخلجات وليدة زمن مضى ، وما زالت عالقة في الذهن ، أو مدوَّنة في أوراق جمعت الاَن ، ونشرت لتنجلي عبر الزمن، وهي عصيَّة على المحو لأنها بنات القلوب الملوَّعة الصابرة الوفية ؟
والملاحظ ، هنا ، أنَّ الكاتب يكرِّر تسميتها بالأفكار المبعثرة عبر الزمن ، أي أنَّها لم تنتظم في مسار متصل السياق ، لكن لم هي ، مرَّات خلجات ومرات أفكار ؟ هل لأن الخلجات تغدو أفكاراً لدى تأملها عندما يواصل القلب النطق بها ؟ نجيب بأنَّ هذا مايفهم من قول الكاتب : انها انفعالات قلب وخلجاته حدَّث الكاتب نفسه بها على هواها لتمثل قصة حياته التي كان يدوِّنها شعراً ونثراً ... . وهي ، كما يضيف الكاتب ، ليست كلَّ مادُوِّن ، وانما المتيسِّر منه ، المرسوم بريش القلب والرمش والأحضان والشفاه والعمر ، أي بريش التجربة الكيانية ، الناطقة بتجربة المعاني ، بجميع مكوِّنات كيانه الانساني ، فيكون رسمه نحت لغة ، كما يقول : " أنحت القوافي ... من صبري ... ومن جلدي " (ص. ٣٥ ) .
واذ نقرأ نصوص هذا الكتاب نتبين أنَّ " مرساتها جميعها " القوافي ، فلعلَّه عندما كتب ، في التصدير ، " مرساتكم القوافي " كان يقصد النظم التقليدي ، ولم يقصد الالتزام بالقافية ، لأنه يلتزم القافية ليس في نهايات الأبيات فحسب ، وانما في نهايات الأشطر كذلك ، ومن نماذج ذلك قوله ، في " اني راحل :" رقاص الساعة نبهني ... ، وطول الليل أرقني / جلّ الأمر ... ، أقلقني ... ، ونجم الصبح ... نبهني " ( ص. ١١) . ويلاحظ أنَّ ايقاع هذه القوافي هو ايقاع صوت المدِّ ، أو صوت اللين ، المصوِّت ، الممتدِّ قبل الصوت الساكن أو بعده ، كأنه الصوت ، العالي ، أو الخافت ، الناطق بالاَه ، ومن النماذج الدالة على ذلك نذكر : ها ، را ، عا ، ال ، اني ، دي ، ري ... ، فهل ينطق هذا الايقاع / عزف الحرف بخلجات الملوَّع وشكواه وأنينه ؟ تفيد عناوين كثير من النصوص بأنَّ الاجابة هي نعم ، فمن هذه العناوين : اني راحل ، انذار ، وهم الحب ، شكوى وذكرى ، شكوى ، خسارة ، خدع الليالي ، مراكب الصبر ... . ويمكن أن يكون لتكرار النقاط الثلاث بين عبارات النصوص دلالة على أنَّ ماكتب في هذا الشأن ليس كلَّ ماعاناه الملوَّع ، وانما بقي الكثير مما لم يكتب ، ويترك للقارئ أن يتحول بهذا الغياب الى حضور ، أو بهذا المسكوت عنه الى ماينطق ويقول .
من الحضور الناطق باللوعة ، وهو كثير ، في هذه النصوص ، نقرأ ، على سبيل المثال : " أنا الفتى الظماَن في وادي اللظى " ( ص. ٤٠ ) ، " على أدراج الوهم ضاع عمري " ( ص. ٨١). " أسفار شقاء ... ، دون مقابل ... ، صمتي يعني ... ، أني راحل " ( ١٢ ) ، " ياللغريب ، في دياره ، مستوحشاً ، / حنَّ عليَّ الصخر ، وهو مارثى " ( ص. ٨٠ ) . " مقبرة الأحزان ، أيا قلبي ..." ( ص. ١١١) . هذا على المستوى الفردي ، أما على المستوى الجمعي ، مستوى البلد والأمة ، فالوضع أكثر سوءاً ، ومما يدلُّ على ذلك قوله : " ياسائلاً عن الحق في بلدي / فالحقُّ حديث سُمَّارٍ وأخبار رواة / أنت في أمةٍ تكالب الدهر عليها ، والمال دينٌ ومعبود صلاة " ( ص. ١٣و١٤) .
غير أنَّه مختلف ، وعلاقته بالمال مختلفة . يقول ، في هذا الشأن :" جمع المال قد أذلَّ الرقابا ، لكن رأسي قد طاول السحابا / سعى اليَّ المال صاغراً ، وعانت الناس بجمعه الصعابا /قضيت العمر شغوفاً بصرفه / ويكنزه الاَخرون كأنه ثوابا " ، وهذا انما هو نعمة من الرحمن سابغة ، دعاه فاستجاب ، فله الحمد قياماً وقعوداً ( ص. ١٢٨ ) .
ويبدو أنَّ بنات أفكاره تصدر عن هذا المنظور الديني ، ومن هذه البنات : إن الحياة سرابٌ وهمٌّ ، وأيامها خادعة ، ومانملكه اليوم يضيع في الغد ، ولاينفع المرء الا خير العمل ، والمرء هذا راضٍ بقدره ونصيبه ، ويطلب من حائك الشِّباك أن يرفق به ، وان كان يشقى اليوم بحاضرٍ أليم ، فانِّه ينعم غداً بقرب واحد أحد ، فيسبح ، ويدعو الله سبحانه وتعالى : " وفي جهنم ... ، ربي ، لاتغلَّني ، نار الدنيا ... ، ألهبت كبدي " ( راجع للمزيد : ص. ٣٨و٢٣و٣٥و٣١ ) .
ومن هذا المنظور يرى الى عالمه وقضاياه وأناسه وأشيائه ، فيستحضر من التاريخ شخصيات ، منها النبي محمد ( صلى الله عليه وعلى اَله وسلم ) ، المرسَل رحمة للعالمين ، وامام الأتقياء ( عليه السلام ) ، يسأل : ومن لودٍّ سواه ؟ وبالسيدة البتول ( عليها السلام ) ، وبسيد الشهداء ( عليه السلام ) المنتصر بدمه الزكي ، وبإمام الهدى في الشرق ، ومن الحاضر ، المقاومة ، وأطفال الحجارة ، وبعلماء أفذاذ، منهم الشيخ موسى مغنية ، وببلدته عيناثا ... ، ويبدو أنه يجيد وصف أشياء في عالمه ، أثيرة لديه ، كما نرى في وصفه للأركيلة.
ومن هذا المنظور ، أيضاً ، يجرد من نفسه شخصاً ، ويخاطبه :" أقبلت دنياك ، فامتلك زمامها " ( ص. ٦٩ ) ، وماان يفعل ذلك حتى يقول : " عرفت بأنَّ الأرض ملكي ، وحوت أرضي السماء " ( ص. ٧٨ ) . وهذا الغلوُّ بالفخر المتمثل بامتلاكه الأرض ، واحتواء أرضه السماء ، يمثل طرف ثنائية طرفها الثاني ، كما جاء في قصيدة " صبر وعزيمة "، حسبان الناس أنَّ في الأمر نهايته ، لكنه يقسم بمبدع الاَيات وحق المرسلين وكل امام أنَّ له رسالته ، وأنه على شموخ الجبال متعالٍ ، وأن الكواكب تنحني لأمر مهمته ، وأن ... ، كأنه يمتلك عصا موسى وصبر أيوب وعزم طه وضربة علي في الخندق ودم الحسين بكربلا ومحبة عيسى وحسن يوسف وبأس داود وحكمة لقمان .... ، و في سعيه ، يكون الحق مطلبَه والخير منيته ، وانتصار المهدي غايته ، ويرقى الى القول : ناجية بإذن الله فرقته ، مايستحضر الحديث الشريف عن الفرقة الاسلامية الناجية ، وهذا انما يتحقق له بقضاء الله ، سبحانه وتعالى ، الذي لاتبديل له ، وان كان لهذا الزمان جولة فبعد هذا الزمان ، عندما يُنفخ في الصور جولته ( راجع للمزيد ، في هذا الشأن ، ( ص. ٤٢ ٤٤).
ويكون الشعر عصارة هذه التجربة الفريدة . يقول عن أبياته :" تلك عصارة كبدي ، فانعم بها / شاعر على ربى الخلد شادي " ( ص. ٥٠ ) ، " أنطقني الشعرَ شدةُ الألم " ( ١٢٠ ) . وكان لما نطق به فاعليته ، فهو ، كما يقول ، أعاد اليه روحه ، فاستقام له العيش ، يقول : " ماذا أقول فيك ، يايراع ... ، أعدت الروح اليَّ ، وكانت بأسفار " ( ٢٢) . وان كان الشعر يعيد اليه الروح ، فان الابن يحييها ، يقول ، في هذا الشأن : " يابنيَّ ، أحييت روحاً بجنبي ، وأنت بهجة الدنيا وكلُّ أفراحها " ( ص. ١١٢ ).
احياء الروح وعودتها وبهجة الدنيا وكل أفراحها هذا مايلحظ في مسار شعري بدأ في العام ١٩٧٢ ، وتواصل الى العام ٢٠٢٢ ، وماتبقى من كل هذا المسار الطويل ، كان ابحاراً في مراكب الصبر ، بدأ بأولى كلماته ، المؤرخة في العام ١٩٧٢ ، ولعله كان في السادسة عشرة من عمره ، يخاطب حبيبته بقوله :" اذا حان الأجل ... ، ياحبيبتي ، اذكريني ... ، بدمع الأسى الحزين ( ص. ٥١) ، وتواصل الى اَخر هذه الكلمات : " وختام العمر بالموت انتباه من الوسن " ( ص. ٨٣ ) ، وهذه الكلمات صياغة أخرى للحديث الشريف :" الناس نيام ، فاذا ماتوا انتبهوا " ، واللافت في الكلمات : الأولى والأخيرة ، حضور الموت ، بوصفه الحقيقة في هذه الحياة ، وهو مايختلج به ذاك القلب الذي بدأنا حديثنا بنبضاته ، وبإنذاره نختم : " ... ، مادهاك ، ياابن اَدم ، وتحت التراب كل ما جنيت ... / القلب ودقاته للزوال ، كما الحبيب والمال والبيت " ( ص. ٨٩ ).
انذار القلب هذا هو الصوت المهيمن في مسار حياتي شعري تمثل نصوصاً ، حاولنا تقديم معرفة به وبها ، في قراءة نصية لا تزعم أنها قراءة نهائية.
الدكتور عبد المجيد زراقط. كاتب واكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي