عبد المجيد زراقط، دور العلماء العامليين الأدبي {السيد محسن الأمين (1284/1371 هـ -1867/1952م)} / جريدة الأيام الإلكترونية
تربَّى في كنف والدين عنيا بتربيته أفضل عناية، كأنا كانت يعدَّانه ليؤدِّي دوراً رائداً. أتاحت له هذه العناية الفرص، فكان جديراً بالإفادة منها إلى أقصى حد. فمنذ طفولته كان قادراً على تمييز جيِّد الأمور من سيِّئها واتخاذ قرار حازم في شأن ذلك. كانت القدرة على إعمال العقل في السائد ونقده وإصلاحه بارزة لديه طوال مرحلة حياته.
هذه القدرة على فهم الأمور وتمييزها واتخاذ قرار في شأنها، كانت تستند إلى ثقة بالنفس وحزم، وهذا يكوِّن فرادة فذَّة يعبِّر عنها قوله لأحد الأساتذة الجامدين، سنة 1920: "لماذا نحذو حذو الأقدمين هم رجال ونحن رجال"().
وعلى الرغم من هذا الاعتداد بالذَّات الواعية قدراتها، كان السيد دمث الأخلاق، ويكاد يكون، كما خاطبه الشيخ موسى شرارة، وهو فتى: "كل صفاتك حسنة إلاَّ شدَّة الحياء". وتجلَّى هذا الحياء، في ما بعد، في شخصية لطيفة المعشر، هشَّة بشَّة، لبقة في التصرف، وتفترض الخير فيهم. ولعلَّ هذا الصفاء، أو الطهارة، ما جعل السيِّد يشع، على حد وصف أحد عارفيه، "بالإيمان حقاً، فقد كانت له جاذبيته وسحره". وكان ينم عن نفس وادعة بعيدة عن التعقيد، لا غموض فيها ولا إبهام، فلا يلبث أن يراه أحد حتى يحبُّه"().
ومنذ نعومة أظفاره في دروس تحصيل المعرفة كان لا يكتفي بالمقرَّر، وإنما يرغب في مصادر أخرى، ويبحث. ثم تجاوز ذلك إلى التأليف، فألَّف كتاباً في النَّحو، ونظم أرجوزة في علم التصريف حوالي سنة 1300 هـ/1882م.، ولما يتجاوز السادسة عشرة من عمره. واستمرت الحال على هذا المنوال، فكان يمضي أوقاته في التدريس والمطالعة والعزلة عن الناس، ونفسه تتوق إلى الهجرة للعراق. وظل بعد أن نال درجة الاجتهاد لا شغل له، في جميع أيامه، سوى المطالعة والتأليف والقضاء بين الخصوم وجوابات المستفتين". وفي أثناء رحلاته كان هذا دأبه.
لم يحد عن هذا الدأب حتى نهاية العمر، ففي السادسة والثمانين من عمره، كان يواصل الكتابة والإطلاع على الرغم ممَّا تراكم عليه من هموم، كما يقول. وأثمر هذا نتاجاً يصفه بقوله: "ولو قسَّم ما كتبناه تسويداً أو تبييضاً ونسخاً وغيرها على عمرنا، لما نقص كل يوم عن كراس مع عدم المساعدة والمعين غير الله تعالى"() وكان هذا النتاج موسوعياً يشمل مختلف علوم العربية وآدابها، ومن هنا تتَّخذ وصيته بدفن محبرته وأقلامه معه دلالتها المعبرة.
ولم يكن طلب العلم والتأليف فيه بمانعه عن الاتصال بالناس وتحمل همومهم ومباشرة الأمور بنفسه، إن كان ذلك ضرورياً، ورائده في ذلك القول المعروف: "الحر معوان"، وقول الشاعر:
وإنَّ الكريم، وأبيك يعتمل
إن لم يجد يوما على من يتَّكل
زاره أفراد بعثة عربية أمريكية مشتركة، فقال أحدهم: "إننا رأينا موسوعة في رجل"، وقال آخر: "إنَّ العظمة تحكيها عينا هذا الرجل قبل لسانه"(). وقد نشط السيد الأمين، بكلِّ ما يملك من قدرات وإمكانات، في محيطه، في جبل عامل، ثم في العراق، ثم في دمشق، ثم في جبل عامل ودمشق، فكان العالم المجتهد، والمصلح العمليِّ، ومحقِّق الكتب، والمؤرِّخ والرَّحالة وكاتب المقامات والروايات التمثيلية، ومؤرِّخ الأدب، والباحث في الشعر وأنواعه والشاعر التعليمي والوجداني والمربِّي... وفي جميع نشاطاته كان يتوخَّى المنفعة العامَّة والتثقيف الجماهيري وتغيير العلاقات الاجتماعية في حركة إصلاح صعبة كان منهجه فيها الصبر.
ومن يعد إلى مؤلفاته يستطيع أن يلاحظ التنوُّع في الأسلوب المتأثِّر بنوع الكتابة وموضوعها، ويشعر أنه إزاء غير مؤلَّف لولا بساطة الأداء وعمقه وصدوره عن رؤيةٍ متماسكة شاملة ثابتة المبادئ المكوِّنة.
لم يكن السيد الأمين مؤرِّخاً موضوعياً فحسب، وإنَّما كان أيضاً، وفي الدرجة الأولى، مصلحاً في كتابة التاريخ يدعو إلى تنقيتها وموضوعيتها وتوظيفها في خدمة التقدم الإنساني، من خلال كشف الأضاليل وقول الحقيقة. في هذا الإطار من كشف الأضاليل، والدَّعوة إلى الوحدة الإسلامية، كانت موسوعته في علم الرجال: "أعيان الشيعة" التي يرى الأستاذ حكمت هاشم أنَّها "من الأوابد الخوالد في تراثنا الإسلامي"، وذلك لأنَّه يثبت بهذه الموسوعة التي تشمل علماء الشيعة ومتكلميها وأصولييها وفقهائها ونحوييها ومؤرخيها ونسَّابيها وأطبائها وشعرائها وأدبائها ومصنفيها في كل فن... يثبت "الجهل المركَّب" الذي يصدر عنه كثير ممَّن كتب عن الشيعة، فخلط الحابل بالنَّابل، وكأنَّه يرى مشعلي العصبية العمياء وضحاياها، الحقيقة ساطعة. وفي هذا الصدد يقول السيِّد: إنَّ الخلط كان يصدر "إمَّا عن خيانة في النقل أو عن نوع من الجهل أو بسبب نفثهٍ من العداوة وسوء الظن"().
أكَّد السيد، في دعوته إلى الوحدة الإسلامية، حقيقة لا جدال فيها؛ وهي أنَّ الدِّين عند الله الإسلام. ودعا إلى إقامة مجالس عزاء سيد الشهداء (عليه السلام)، وتركَّز جهده، في هذا المجال، على علاج أمور هي: الجهل، والأخبار الكاذبة والأغلاط الشائنة وبعض الأعمال التي تجري في المجالس. وعلى الرغم من إدراك السيد للصعوبات، باشر الإصلاح العملي، فألف الكتب اللازمة، وفق منهجه التاريخي، فألَّف كتاب "لواعج الأشجان" وأردفه بكتاب "أصدق الأخبار في قصة الأخذ بالثار". ولمَّا كانت قراءة المجلس تحتاج إلى الشعر، أيضاً، ألَّف كتاب "الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد". وإذ لمس أنَّ تأليف الكتب وحدها لا يكفي، عمل على تدريب القرَّاء، ووضع من أجل ذلك كتاب "المجالس السنيَّة" في خمسة أجزاء.
كان السيد الأمين شاعراً، وله ديوان شعر عنوانه: "الرحيق المختوم في المنثور والمنظوم". ونعني الشعر غير المخصَّص لغرض تعليمي أو تاريخي. نقرأ من إحدى قصائده، وقد نظمها بمناسبة انتشار وباء الهواء الأصفر في جبل عامل وقيام امرأة اسمها "عمشا" ورجل اسمه علي الزين بغسل الموتى في وقتٍ هرب فيه الأخ من أخيه:
ضيفٌ جديد به الأرواح أضيع من
كـتاب ربِّــك فــي أبيات زنديـق
عمشا كذاك "علي الزين" أنفق من
شايٍ ومن سكَّرٍ في وسط إبريق
نلحظ، في هذا الشعر، ارتباطاً بالحياة وهموم الناس، بتجربة حياتية تشكل ما يجسدها، إن من حيث المعجم اللغوي والتشابيه والتراكيب أم من حيث المضمون الذي يشيد بفضائل الناس العاديين في وقتٍ كانت المدائح تقال فيه للبيك وأصحاب الجاه والمال. نلحظ، أيضاً، البساطة واستخدام لغةٍ كأنَّها الحديث اليومي وصوراً مبتكرة طريفة، تستمد عناصرها من المحيط وليس من الكتب والذاكرة. وفي هذا ريادة تجديد على صعيدي المضمون والشكل بما فيه المعجم اللغوي والعبارة والصور.
لا نزعم أنَّ السيد الأمين تجاوز في كلِّ ما نظمه ما كان سائداً. لكنَّنا نجد لديه ما يؤكِّد نهوضه إلى التجديد: مضموناً وشكلاً. ونضيف إلى ما سبق رؤيته إلى المقدِّمات الطلليَّة المتوارثة. فنقرأ على سبيل المثال: - لا يوقفنَّك في ربعٍ لهم طلل
ولا تسل أين حلُّوا أم متى رحلوا
ولا أحـنُّ إلـى نجدٍ وساكنه
ما همَّني ساكنو نجدٍ وما فعلوا
وعاين السيد الواقع، ورأى أنَّه يقتضي موقفاً يأمر به كتاب الله، وهو الجهاد، فدعا إليه، منهم عدم القنوط والنهوض، فالله ناصر عباده إن أخلصوا النوايا. وممَّا يقوله في هذا الصدد:
وبالجهاد أمرتم في الكتاب وما
صحَّت لكم في جهاد الضدِّ نيَّات
لا تقنطوا وانهضوا فالله ناصركم
إن أخلصت منك لله نيَّات
ودعا السيد، من موقعه في بلاد الشام، إلى مقاومة الاستعمار الفرنسي بجميع الوسائل، ومنها الثورة المسلَّحة، فقال، في قصيدة تعدُّ من القصائد الوطنية الأولى في بلاد الشام:
إنَّ الحـيـاة تـنـازعٌ وخـصام
هيهات ما بسوى السيوف سلام
والعدل كالعنقاء فينا، والذي
لم يـنـفِ الضـيـم فهو يُـضام..
الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي - ناقد أدبي- قاص وروائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت.
---------------------------------
ملحوظة : ماتنبغي الاشارة اليه هو أنَّ كل اقتباسى من أي مرجع مُحال الى مرجعه في الهوامش ، لكن الهوامش لاتظهر في نهاية المقالة ، لأسباب تقنية، فاقتضى التوضيح.
- علامات:
- ثقافة