عبد المجيد زراقط، دور العلماء العامليين الأدبي {الشيخ عبد الحسين صادق (1279 -1361هـ/1860 – 1942م)} / جريدة الأيام الإلكترونية
تلقَّى علومه الأوليَّة في مدرستي مجدل سلم وعيتا، ثم رحل في طلب العلم الى النجف الأشرف سنة 1300 هـ/1881 م. وبقي في المدينة المقدَّسة سبعة عشر عاماً، نال خلالها درجة الاجتهاد، بشهادة العلامتين: الملاَّ كاظم الأخوند"، صاحب الكفاية وميرزا حسين ميرزا خليل. ولما عاد الى جبل عامل، سنة 1316 هـ/1898م، أقام في بلدته "الخيام"، وأسس فيها مدرسة دينيَّة. ثم انتقل إلى مدينة النبطية، بطلب من أهلها، وأسَّس فيها الحسينية والمسجد. بعد وفاة السيد حسن يوسف، تولَّى إدارة المدرسة الحميدية في النبطية.
عاش، في النبطية، في مرحلة تاريخية مهمَّة، كان ينشط فيها نهضويون مستنيرون، أمثال الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر ومحمد جابر آل صفا، وكان بين هؤلاء فقيهاً ومرشداً وشاعراً.
انتدب من قِبل أعيان جبل عامل لمبايعة الأمير فيصل والحكومة العربيَّة في دمشق في 15 أيار (مايو) سنة 1919، ووقف أمام الأمير قائلاً: "أبايعك باسم أهل جبل عامل على الموت"، وهو صاحب القول المشهور، بعد ضم جبل عامل إلى دولة لبنان الكبير: "جبل يبتلع جبلاً".
من طرائفه الشعرية ما ارتجله ساخراً من المفوض السامي الفرنسي "الجنرال غورو"، يوم زيارته النبطية:
غورو قطع يد ورجل كلها
مجموعة أرِّخ بهذا غورو 1920
قال السيِّد محسن الأمين في مكانته الشعرية: "هو في الطبقة الأولى في الشعراء..."، وقال جواد شبر في موهبته الشعرية: "... ويظهر أن نظم الشعر لديه أسهل عليه من النثر"، توفي ودفن في مدينة النبطية(). نتعرَّف الى هذه الشخصية العلمية والأدبية، في أخص مميزاتها، فنتصفَّح، بغية تحقيق ذلك، وكي نكون موضوعيين، ديوان "سقط المتاع"، ونقرأ فيه أبياتاً بالغة الدلالة على هذا الصعيد، نذكر منها:
خُلِقْتُ رحيب الصدر، مهمل تراكمت
عليَّ صروف الدَّهر أُنزلها صفرا
- تركت الجفا، والعمر في عنفوانه
أأتركه من بعد شيب اللماتم؟
كن غارساً لكل بني الورى
كأبيك، أحرى فيك كونك مثله()
ونواصل التعرف، لنرى أنه ينتمي إلى اسرة توارثت العلم والأدب أباً عن جد وأنه نشأ نشأة تميَّزت بقسوة اليتم ورعاية الأقارب. ودرس دراسة دينية غنية ومعمَّقة ومارس نشاطاً فعَّالاً في بيئة النجف وكانت له صلة وجدانية حميمة بها، ومارس نشاطاً دينياً اجتماعياً سياسياً فعَّالاً في وطنه عاملة ومارس نشاطاً فكرياً تمثل في إنتاج عددٍ من المؤلفات الفقهية والاجتماعية والأدبية.
ففي ميدان الفقه صنَّف: المذاهب السنية في فقه الإمامية، الشذرات في مباحث العقود والإيقاعات، تقريرات الميرزا حسين الخليل في مباحث الإجازة والوصية والقضاء، منظومة في المواريث لم يبق منها سوى 230 بيتاً في أربع عشرة صفحة، حاشية على قوانين الأصول.
وفي قضايا العصر ومشكلاته، بحث في الموضوعات الآتية:
سيماء الصلحاء، وهي رسالة في إقامة المآتم الحسينية، منظومة يرد فيها على فتاوى مشايخ الوهَّابية، منظومة في الرد على القسِّ الحلبي، أجوبة عن مسائل متنوعة، منها المسائل الرافعية الطرابلسية.
وفي ميدان الأدب ترك ديواناً شعرياً يحتوي على آلاف الأبيات الشعرية، وهو مجموع في ثلاثة أجزاء: أحدهما سقط المتاع، والثاني عرف الولاء والثالث النظرات والمناظرات.
والشاعر، في شعره الذي يتوزَّع على مختلف أغراض الشعر التقليدية، يجهد للإجادة في إطار قديم. ولعلَّنا لا نجانب الصَّواب إن قلنا: إنَّ الشاعر يجهد ليقرب بشعره، من حيث اللغة الفنية، إلى الشعر الجاهلي حتى ولو كان يتناول موضوعات معاصرة.
والواقع أنَّ الشيخ الشاعر كان ينشئ قصيدته الطويلة ليعالج فيها معظم الشؤون التي كانت تشغله، كأنه يكتب مقالة فكرية مُصاغة نظماً جيداً. - كيف لا أخلع الحياة، وكلي
علل هنَّ صيغة للطلاق
لكنَّ ما لاحظناه من "نسج" يؤتيه صناع ماهر يسعى، أحياناً، إلى نكات بديعية لم يقف حائلاً، حين كان الموضوع يقتضي ذلك، دون استخدام العديد من العبارات والمفردات المأخوذة من الحياة، ونمثل على ذلك بقول الشاعر: ليس أم القرى سوى راحتيه
وسواه الأمِّي، وهُوَ القاري
فلم يبقَ منها مغرزاً لابن إبرةٍ
........
ساقها للسُّرَى بليل ضلالٍ
عاصفات الأهواء والغرضيَّةُ
كما أن الموضوع الحيّ المنبثق من تجربة حياتية كان يفرض تَغَيُّراً في شكل التعبير، فيغدو البحر قصيراً والقافية غير متكلَّفة والألفاظ عذبة سهلة متداولة قريبة من العاميِّة، ونمثل على ذلك بقصيدة "في المحكمة" (الديوان، ص. 54)، ومنها البيات التالية:
... من حاكم الصلح يشكو
الشاكون بطء قضائهْ
لو كان ذو الحــق نوحــاً
لــمـات قـبـل لـقـائـهْ
للشيخ صادق قصيدة طويلة، يمكن أن نضع عنواناً لها "حلم النهضة"، تلخِّص رؤيته إلى قضايا انتماء الوطن وسبل بنائه. وهي، في الوقت نفسه، تتميَّز بخصائص بنائية منها، أن الشاعر لا يلجأ فيها إلى مقدِّمات، وإنما يبدأ بعرض حُلُمِهِ مباشرة؛ وهو حلم يتألَّف من أربعة أطياف، كل طيف يعرض في قسمٍ من أقسام القصيدة التي يبدو فيها أثر الجهد في سبيل الإجادة، ولكنه يبقى جهداً يقرِّبها من الروائع العربية الأولى، ويبعدها عن تكلُّف الصناعة والبديع. ولعلَّ هذا الجهد محاولة لتحقيق الحلم على الصعيد الشعري الذي قد نعدُّه طيفاً خامساً، أمكن للشاعر أن يحققه، فلعلَّه يحيي اللغة الشِّعرية التي كادت تميتها الزخارف من نحو أول والعجمة والركاكة من نحوٍ ثانٍ. ويعيد لِلنَّبْتة ارتباطها بجذورها.
الدكتور عبد المجيد زراقط. أكاديمي - ناقد أدبي - قاص وروائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت.
_________________________
ملحوظة : ماتنبغي الاشارة اليه هو أنَّ كل اقتباسى من أي مرجع مُحال الى مرجعه في الهوامش ، لكن الهوامش لاتظهر في نهاية المقالة ، لأسباب تقنية، فاقتضى التوضيح.
- علامات:
- ثقافة