عبد المجيد زراقط، دور العلماء العامليِّين الأدبي ( 10 ) الشهيد الأوَّل (734/786 هـ/1333/1384م)/ جريدة الأيام الإلكترونية
في السادسة عشرة من عمره، سنة 750 هـ/1349م، رحل في طلب العلم فقصد مدينة الحلّة، وكانت آنذاك مركزاً من مراكز الحركة العلمية، وتلقَّى العلم في حوزتها، وأجازه فخر المحققين، نجل العلاَّمة الحلي بأن يروي عنه في 20 شعبان سنة 751هـ/ 1350م. وممَّن أجازه محمَّد بن القاسم الحلي، المعروف بـ "ابن معيه". وبقي يتابع دراسته في العراق مدة خمس سنين. لم يكتفِ بهذا، وإنما واصل السَّعي في تحصيل العلم فزار كربلاء وبغداد ومكة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، والقدس. وكان خلال زياراته هذه يطَّلع ويباحث ويزداد علماً، ففي الشام اجتمع بالفقيه المحقق قطب الدين الرازي، وقرأ عليه الفلسفة والحكمة.
صنَّف الكثير من المؤلَّفات، وتميَّزت مؤلفاته بأنها تضمَّنت تدويناً منهجياً للقواعد الفقهية. أهمُّ مؤلفاته التي بلغ عددها ما يزيد على الثلاثين مؤلَّفاً كتاب "اللمعة الدمشقية"، وهو كتاب في الفقه، يتميز بمتانة الاستدلال، وتركيز الدليل، وتجنُّب الخوض في المناقشات المطوَّلة للآراء وكثافة التعبير وجماله، وقد دخل هذا الكتاب من المنهاج الدراسي للحوزات العلمية في الفقه، منذ تأليفه حتى يومنا الحاضر وقد ألَّفه في مدة حبسه في قلعة الشَّام. وما كان يحضره من كتب الفقه سوى كتاب "المختصر النافع"، ويرى بعضهم أنَّه ألَّفه سنة 782 هـ، بطلب من "علي بن المؤيد"، ملك خراسان (ت 795 هـ).
يحمل والده جمال الدين وجده لأبيه محمَّد لقب الشيخ، ما يتيح الاستنتاج، كما يقول السيِّد حسن الأمين "أن الحياة العلمية لأسرة الشهيد محمَّد بن مكِّي تبدأ بجدّه محمَّد". وإن لاحظنا أن أستاذه كان الشيخ طومان المناري، لاستنتجنا أن الحياة العلمية في جبل عامل تعود إلى أجيال قبل جيل الشهيد، وذلك لأن الشيخ طومان تعلَّم على شيوخٍ سبقوه في العلم الذي لم ينحصر في منطقة واحدةٍ من الجبل! إذ إن المنارة تقع في أطراف الجزء الجنوبي من الجبل وجزِّين في أطرافه الشمالية.
حقق الشهيد الأول إنجازات كثيرة دينيَّة علمية، وسياسيَّة واجتماعية، فأسَّس مدرسة جزِّين بعد سنة 771 هـ/ 1270م، فكانت هذه المدرسة البذرة التي نمت وأثمرت في ما بعد، وتلتها مدارس فقهية أخرى في غير قرية من قرى جبل عامل، ودوَّن القواعد الفقهية متبعاً في ذلك منهجيَّة صارمة، وعمل على التقريب بين المذاهب، إذ عرف بسعيه في هذا المجال، فقرأ على عدد من مشايخ السنَّة، وروى عن أربعين شيخاً من علمائهم، في مكَّة والمدينة وبغداد ومصر ودمشق والقدس، وعمل على تنظيم علاقة عامة النَّاس بالعلماء؛ إذ نظَّم شبكة من الوكلاء ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس الدين والدنيا. خرج في نشاطه إلى فضاء أوسع من جبل عامل، فكان له بيت في دمشق، كان يتردَّد عليه بين وقت آخر، وكان هذا البيت عامراً بالعلماء وطلبة العلم، وكان يتم التَّعليم فيه والمباحثة على المذاهب الإسلامية. تصدَّى لأصحاب البدع في التفكير والعقيدة، فعندما دعا "محمَّد اليالوشي" إلى مذهب منحرف عمل على القضاء عليه، غير أن آخرين ظلوا يتابعون هذه الدَّعوة، وأسهموا هم وقاضي صيدا في الوشاية به. فقتله والي دمشق المملوكي بفتوى القاضي برهان الدين المكّي وعباد بن جماعة، بعدمال سُجن سنة كاملة في قلعة دمشق. ويبدو أن الوالي قرَّر التخلّص منه، بعدما رأى من اتساع نفوذه وتأثيره في الأوساط العلمية والدينيَّة والاجتماعية، فالتقت المصالح، وتمَّ تدبير التُّهم والشهود.
كان الشَّهيد الأوَّل، كما رأينا، عالماً كبيراً، وناشطاً سياسياً واجتماعياً، وكان شاعراً، يخلو إلى نفسه، فينبض القلب الرهيف، ويفيض بالمشاعر، فينطق بها اللسان لغة جميلة تسبِّح الخالق سبحانه وتعالى، وترجو عفوه ورحمته، فنقرأ له:
عظمت مصيبة عبدك المسكين
في نومه عن مهر حور العين
الأولياء تمتعوا بك في الدّجى
بتهجَّدٍ وتخشُّع وحنين
فطردتني عن قرع بابك دونهم
أترى، تعظم جرائمي، سبقوني
أوجدتهم لم يذنبوا فرحتهم
أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني
إن لم يكن للعفو عندك موضع
للمذنبين، فأين حسن ظنوني!؟
أرسل إلى الحاكم الخوارزمي قصيدة ينفي فيها التهمة الموجهة إليه، جاء فيها:
يا أيها الملك المنصور بيدمر
بكم خوارزم والأقطار تفتخر
والله، والله، إيماناً مؤكدةً
إني بريءٌ من الإك الذي ذكروا
يقول السيِّد حسن الأمين: أمَّا بعد جلاء الاحتلال الصليبي، فيمكننا أن نعتبر أن الشهيد الأوَّل هو مؤسِّس النهضتين العلمية والأدبية، ولقد كان، إلى جانب مكانته العلمية على شاعرية حسنة ينظم الأبيات والبيتين، فنحن نستطيع أن نعدَّ شعره من أوائل النتاج العاملي الذي وصلنا بعد جلاء الصليبيين، ومن ذلك قوله:
شُغِلنا بكعب العلم عن طلب الغنى
كما شًغلوا عن مطلب العلم بالوفر
فصار لهم حظٌّ من الجهل والغنى
وصار لنا حظٌّ من العلم والوفر
غنينا بنا عن كلِّ من لا يريدنا
وإن كثرت أوصافه ونعوته
ومن صدَّ عنَّا حسبه الصَّدّ والجنا
ومن فاتنا يكفيه أمَّنا نفوته"
ويخلص، بعد الحديث عن فضل الشهيد الأول إلى القول: "وهكذا، يمكننا اعتبار سنة 755 هجرية، وهي سنة عودة الشهيد من العراق، مبدأ البحث العلمي والأدبي في جبل عامل"().
الواضح، في هذه الأبيات، غلبة العصر العقلي والوضوح، والتغني بقيم إنسانية عليا هي العلم، والغنى به وإن كان رديفه الفقر، والاعتزاز بالذَّات الغنيَّة بإمكاناتها عن كل من لا يريدها مهما بلغت أوصافه من الكثرة، فمن يفوتنا، ويقول الشهيد، يكفيه أنَّنا نفوته، وليس هذا أمراً بسيطاً.
قال عنه الحرُّ العاملي: "كان عالماً ماهراً فقيهاً محدِّثاً مدقِّقا ثقة، متبحراً كاملاً جامعاً لفنون العقليات والنُّقليات، زاهداً عابداً ورعاً، شاعراً أديباً منشئاً، فريدة دهره وعديم النظير في زمانه"().
وقال عنه أستاذه فخر الدين محمَّد ابن العلاَّمة الحلي: "وقرأ على مولانا الإمام العلاَّمة الأعظم، أفضل علماء العالم، سيد فضلاً وبني آدم، مولانا شمس الحق والأمين محمَّد بن مكِّي".
قال الشهيد الثاني: "شيخنا المحقق، التحرير، المدقِّق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة".
عمل على تحقيق عدة أهداف، منها:
1- القضاء على البدع والشعوذات التي هدَّدت الشريعة، 2- حماية جبل عامل من أية حركة مشابهة لما حدث للشيعة في كسروان، 3- جمع شمل العامليين، خصوصاً بعد ظهور منحى إقطاعي للوقوف في وجه الإصلاح الديني، 4- ربط القضية العاملية بقضايا المنطقة ونشر العلم وحفظ العقائد، 5- تأسيس إدارة محلَّيَّة ونظام دفع الخمس موازٍ لنظام الضرائب الرسمي. ومن مؤلفاته: "القواعد والفوائد"، وهو كتاب موجز في الفقه، و"الدروس الشرعية في فقه الإمامية" "غاية المراد في شرح الإرشاد" في الفقه وشروحات ورسائل كثيرة، و"شرح قصيدة أبي الحسن علي بن الحسين، الشهيد بالشهقيني".
كما كان ينظم الشعر، فمن ذلك قوله:
بُلينا بقومٍ أهل مكر، وعندهم
دهاءٌ، فهم أمثال حمر فوَّارة
إذا شئت أن تحظى بجاهل عندهم
تجاهل، وإن أوتيت علم فوَّارة
في هذين البيتين، كما يقول السيد حسن الأمين: "يتمثل لنا جزء من المعاناة التي كان يكابدها محمَّد بن مكِّي في محاولته النُّهوض بشعبه، فهو كان يصطدم بمن هم أعداء كلِّ نهوض، وهم موجودن في جميع العصور، فهو يجهر بأنَّه بُلي بهم... وهذا يدلُّ على أنَّهم واجهوه وواجههم"(). ويبدو جلياً أنَّ محمَّد بن مكِّي، منذ عودته من العراق، وقف بصلابة أمام اضطهاد المماليك للعامليين وأمام ما يبذلونه من جهد في تحويلهم من حال إلى حال.
ومن شعره قصيدته الفائية التي تصور ما كانت عليه حال المسلمين من تسلُّط شيوخ الصوفية على الحياة الإسلامية، فيقول واصفاً المسلمين وحياتهم:
ومذهبُ القوم أخلاقٌ مطَهَّرة
بها تخلَّقت الأجسادُ في النُّطفِ
ويصف، بعد ذلك ما عليه الناس في عصره:
ليس التصوُّف عكَّازاً ومسبحة
كلاَّ، ولا الفقر رؤيا ذلك الشَّرف
وأن تروح وتغدو في مُرَقَّعةِ
وتحتها مُوبقات الكبر والسَّرف
وتظهرُ الزُّهد في الدُّنيا وأنت على
عكوفها كعكوف الكلب في الجع على.
د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص روائي.
جريدة الأيام الإلكترونية. بيروت
- علامات:
- ثقافة