عبد المجيد زراقط | دور العلماء العامليِّين الأدبي.{٨و ٩ : أدوار الحركة الفكرية وعبد المحسن الصوري }/ جريدة الأيام الإلكترونية
يقسم محمد كاظم مكي أدوار الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل إلى أربعة أدوار هي:
دور النشأة العلميَّة والتطلُّع الفكري، يبدأ من القرن الثاني للهجرة حتى نهاية القرن السابع الهجري (قرن 8 – 13م).
دور المدارس والاتصال بالعراق وفارس، يمتد من بداية القرن الثامن الهجري حتى أواخر القرن الحادي عشر الهجري (قرن 14 – 18م). دور الحكومات الإقطاعيَّة ومحاولات الاستقلال، يمتد من أواخر القرن الحادي عشر الهجري نهاية القرن الثالث عشر الهجري (قرن 18 – نهاية 19 م). دور النهضة الحديثة، ويمتد من سنة 1300 هـ/ 1882م) حتى أيامنا هذه().
في ما يتعلَّق بالدور الأخير نرى أنه دور عصر النهضة، الذي ينتهي في ما يتعلق بالأدب، في نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بعد نيل الأقطار العربية استقلالها ومواجهتها مشكلات التنمية والحداثة على مختلف المستويات، وفي ما يتعلق بالأدب، وبالشِّعر خصوصاً، فإن سنة 1946 تعدُّ السنة التي تؤرخ بها بداية الشعر الحديث المستمرة حتى أيامنا هذه. ولأنَّ هذه المرحلة عرفت تحوُّلات تاريخية، على مختلف المستويات، نفضِّل أن يُفرد لها بحث مستقلٌ، ما يعني أن هذه الدراسة ستقتصر على التعريف بأعلام الأدوار الأربعة وإنجازاتهم.
( ٩ ) عبد المحسن الصّوري (340 – 419هـ)
يعدّ عبد المحسن الصّوري من كبار الشُّعراء المجيدين في عصره(). فابن خلَّكان يبدأ ترجمته له بقوله: "أبو محمَّد، عبد المحسن بن محمَّد بن أحمد بن غالب بن غلبون الصّوري. الشَّاعر المشهور. أحد المحسنين الفضلاء، المجيدين الأدباء، شعره بديع الألفاظ، حسن المعاني، رائق الكلام، مليح النِّظام، من محاسن أهل الشَّام، له ديوان شعر أحسن فيه كلّ الإحسان"(). كان ميَّالاً إلى العزلة، قليل الخروج من مدينته: صور، إلى غيرها من البلدان، فقلَّ لذلك، كما يقول السيِّد محسن الأمين، "العارفون به، الواقفون على أحواله"().
ولد عبد المحسن الصُّوري في مدينة صور، ونُسب إليها، وعاش فيها إلى أن توفِّي "يوم الأحد، تاسع شوَّال، سنة تسع عشرة وأربعمئة، وعمره ثمانون سنة، أو أكثر"()، ما يعني أنه ولد في حدود سنة 340 هـ. وهو شيعيُّ المذهب، "إثنا عشري من دون أية شبهة وقد عدّه "ابن شهر آشوب" "من شعراء أهل البيت المجاهدين"(). وفي ديوانه خمس قصائد في رثاء أهل البيت (عليهم السلام)، وقصيدة في رثاء الشيخ المفيد. تفيد قراءة شعر الصُّوري أنَّه عاش حياةً بائسة، وأنَّه عانى معاناة شديدة من مصائب الدَّهر، فهو يقول: إن "نوائب الدَّهر" أصابته، فجعلت أيَّامه تظهر في صورتين: سوداء وطويلة، وهل أمرُّ من الأيام إن اجتمع لها السَّواد والطُّول!؟ تعود هذه الحالة البائسة، كما يقول الشاعر الصُّوري، إلى "حرفة الشعر"، أي إلى تكسّبه بالشِّعر، واحترافه الصَّنعة التي لا تؤتي سوى العوز والفقر.
الإجادة في إقامة البناء الشِّعري
نقرأ الخطاب الذي يصوِّر فيه الشَّاعر حالته في قصيدة مدح بها علي بن الحسين، والد الوزير أبي القاسم بن المغربي. تفيد قراءة هذه القصيدة، فضلاً عن تصوير حالة الشاعر، مهارته في توظيف مقدَّمة الغزل التَّقليدية في بيان حالته، وتوظيف هذا البيان في الخروج إلى المديح وإجادة البناء الشعري المتماسك على هذا النَّحو، وهذه المزية من أبرز خصائص شعر الصَّوري: يذكر ابن خلَّكان هذه القصيدة، فيقول: فمن محاسن قوله:
أتُرى بثأرٍ أم بدَيْنِ
عَلِقت محاسنُها بعيني
في لحظِها وقَوامِها
ما في المهنَّد والرُّيني...()
هذه مقدِّمة غزلَيَّة، لغتها سهلة عذَبة، تصدر عن تساؤل مشبع بالمرارة". قد نقول: إن هذه المرأة تمثِّل، على مستوى آخر، الدُّنيا التي لم يلق منها سوى النوائب.
هذه المقدَّمة الغزلية تمثِّل، من نحو أول، تقليداً شعرياً متداولاً يجيد الشَّاعر صياغته. ومن نحو ثانٍ، تجربة الشاعر المريرة مع هذه الحياة، ما يفضي إلى تصوير هذه التجربة، فيكمل الشاعر، يقول:
ونوائبٍ أظهرنَ أيّا/ مي إليَّ بصورتين
سوَّدتنا وأطلتها/ فرأيتُ يوماً ليلتين...
ويرغب في تغيُّر، وهنا يفضي الكلام إلى المديح، فيقول:
كانت كذلك قبل أن يأتي عليُّ بن الحسين وقد عُرفت هذه القصيدةـ وشُهرت، وتداولها الشُّعراء، وحفظها الأمراء. ومن نماذج شعره الجيِّدة:
بالذي ألهم تعـ/ ذيبي ثناياك العذابا
بالذي ألبس خدّ/ يك، من الورد، نقابا
بالذي صوَّر بالآ/ سى على الورد حجابا
بالذي صيَّر حظِّي/ منك حجراً واجتناباً
فا الذي قالته عيـ/ ناك لقلبي فأجابا!؟
أخذه الشيخ بهاء الدين العاملي، فقال:
يا بدر دجى فراقه الجسم أذاب
مذ ودعتني، فغاب صدري إذ غاب
بالله عليك أي شيء قالت
عيناك لقلبي المعنَّى فأجاب()
يمثِّل ديوان عبد المحسن الصوري ثقافة عصره في مختلف جوانبها؛ وذلك في الوقت الذي يمثِّل فيه اتجاهاً شعرياً، من أبرز خصائصه إجادة بناء القصيدة الطويلة، وتوظيف مختلف أقسامها في أداء دلالة كلِّية، والقصد إلى اعتماد المقطوعات القصيرة وتجويد لغتها الشعريَّة: معجماً عذباً سلساً، وصوراً مبتكرة ومحسِّنات بديعية لطيفة. هذه اللغة الشِّعرية المتميِّزة التي تؤدِّي معاني مكثَّفة طريفة عميقة هي التي جعلت عبد المحسن الصوري يحتل منزلة عليا في تاريخ الشعر العربي على الرُّغم من عزلته في مدينة صور. وممَّا يدل على رفعة هذه المنزلية هذا الحوار الذي دار بين أبي العلاء المعرِّي والشاعر أبي الفتيان بن حيُّوس. قال المعرِّي بعدما سمع أبياتاً للصُّوري: "هذه لقصيرك"، فرد ابن حيُّوس: "هو أشعر من طويلك"، ويقصد المتنبِّي. إن شاعراً يقارن بالمتنبِّي، ويفضَّل عليه لجديرٌ بأن يحتفى به.
د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية
- علامات:
- ثقافة