داوود مهنا، قراءة في رواية "وصفات سرّيّة" للكاتبة ريمة راعي.. سر الوصفات السّرّيّة / جريدة الأيام - بيروت
في رواية "وصفات سرّيّة" الصّادرة حديثًا عن "دار أسفار" للكاتبة ريمة راعي، يظهر الحبّ بوصفه فاعلًا أساسيًّا وعاملًا محرّكًا ودافعًا للشّخصيّات بهدف مغالبة الواقع من أجل تجاوزه، أو الوصول إلى ما تتوق إليه. هذه الرّواية تنتمي إلى "أدب المقاومة" الّذي يُعدُّ من الأنواع الأكثر تعبيرًا عن حالة الاحتلال أو القهر أو الظّلم الّتي يعيشها المجتمع في مواجهة الآخر العدو أيًّا كان. والأدب المقاوم هو أدب واقعيّ ملتصق بهموم المجتمع. إنّه أدب ملتزم يحاول فيه الكاتب إيصال رسالة من خلال وعيه قضايا مجتمعه، فهو أدب الوعي والدّعوة إلى تجاوز الأزمات والتّغلّب عليها.
في وقفة مع عنوان الرّواية (وصفات سرّيّة) يظهر شيء أساسيّ من مستلزمات المقاومة الفاعلة النّاجحة، وهو الإعداد السّرّيّ بحرفيّة عالية وإتقان تامّ، وتنفيذ الخطط المحكمة الّتي تُعدّ في غرف مغلقة ذات سرّيّة تامّة تتعامل بالرّموز والإشارات والأسماء المستعارة. فعنوان هذه الرّواية يضعنا أمام أحد أهمّ شروط المقاومة النّاجحة.
تُظهر هذه الرّواية مجتمعين تربطهما قضيّة واحدة هي الجهاد دفاعًا عن الوطن (سوريا ولبنان). والمجاهد إنسان كونيّ يرى نفسه ملزمًا ذاتيًّا حيث يكون هناك ظلم أو اعتداء أو قهر، فتزول الحواجز والحدود بين الأوطان طلبًا للحرّيّة المطلقة. ويبدأ فعل المقاومة في الذّات الإنسانيّة قبل التّجربة الحربيّة. فإعداد الطّعام بإتقان، وتربية الأبناء على حبّ العائلة والتّمسّك بالقيم والمبادئ... هي أفعال مقاومة. وإذا كانت المقاومة بحاجة إلى غرفة عمليات خاصة، فإن الكاتبة أبدعت في الكلام على مطبخ أمّ البطلة الّذي كانت تعدّ فيه أشهى الأطباق بإتقان وحرفيّة عالية، فتفوح روائح الطّهو معطّرة أجواء المنزل بأشهى الأطباق اللّذيذة الّتي ينتظرها أفراد الأسرة بفارغ الصّبر. وفي ذلك إشارة ذكيّة جدًّا إلى دور العائلة في إعداد الأبناء من خلال التّربية على الحبّ بأنواعه كافّة. فالأمّ، وهي تتقن فنّ الطّهو، فإنّها تتقن فنّ التّربية، ليخرج أبناؤها أبطالًا أشدّاء، أطباقًا شهيّة للوطن الجميل، تقدّمهم في سبيل الحصول على الحرّيّة المطلقة.
وإنّ فقدان المكان يُفقد روحيّة الأشياء وطعمها ولذّتها إذا كان الأبناء قد تلقّوا التربية الصّحيحة؛ فعندما غادرت العائلة بيتها وانتقلت للعيش في مكان آخر إثر الحرب، تعطّلت حاسة الذّوق عندها لأنّ مطبخ الأمّ قد فُقد، وبقي شيء واحد منه حملته البطلة معها (برطمان مربّى الكرز) الّذي أعان البطلة على الاستقواء وإكمال المسيرة من خلال صنع وصفات تعلّمتها من أمّها. وفعل المقاومة في هذه الرّواية يتجاوز الاحتلال والحروب والظلم إلى التّعبير عن وجهة نظر مجتمع بأكمله، يشحن القوى والعزائم من أجل إظهار الطّاقات الكامنة على المستويات كافّة للمواجهة. كما أنّه يُظهر ظروف المجتمع الصّعبة من خلال معاناته وقهره، بقدر ما يبرز وحشيّة وهمجيّة الآخر المعتدي الّذي يسعى إلى القتل والتّدمير، كما يُذكي روح النّضال ليس بالسّلاح فقط، إنّما بالوعي والإدراك العامّ للقضيّة الّتي يدافع عنها. فالمقاومة هنا هي المواجهة والتّصدّي إلى درجة ذوبان الأنا الفردية في الجماعة الواعية لما يحصل حولها، والمتطلّعة إلى حرّيّتها من أجل الخلاص الجماعيّ. وبهذا المعنى تصبح المقاومة معادلًا موضوعيًّا للعيش بكرامة وعزة.
لقد بيّنت هذه الرّواية أنّ التّمسّك بالمكان وبالعادات والوصايا الّتي تركها الآباء والأجداد، والتّمسّك بالأشخاص والأحداث المحلّيّة يجعل قضيّة المجتمع تصل إلى الإنسانية جمعاء من خلال سموّ القيم. وعبّرت هذه الرواية عن الذّات الجمعيّة، كما أظهرت وعي الفرد الّذي تجاوز الأزمات والحروب والقهر والظّلم، إضافة إلى الوعي بالآخر العدواني من أجل الوعي بالذات والمواجهة. وتظهر صورة الفتاة الّتي تبحث عن الحبّ أينما وجد: في مطبخ أمّها ورائحة الطّهي، وفي مساعدة الجنود تحت خطر القصف، وأخيرًا تقع في حبّ مجاهد. كما تُظهر صورة الأب القوي الصّلب كصخرة، وتظهر صورة الطّفل الّذي فقد أباه في الحرب. وحيثما يوجد الحبّ لا بدّ من البكاء والعذاب والألم بخاصة إذا كانت الحبيبة من "بلاد وقعت في مصيدة حرب لا ختام لها".
ولا تخلو الرّواية من بعض الوعظ والإرشاد ونكران الذّات. وإذا ظهرت المقاومة بوصفها ردّ فعل ضد موقف ما أو ضد جماعة أو عدو، فإنّ هذه الرّواية تظهر فيها المقاومة بوصفها ردّ فعل ضدّ عدوّين: الجماعات التّكفيريّة في سوريا من جهة، والعدوّ الصّهيوني في جنوب لبنان من جهة ثانية. والقضيّة واحدة وإن اختلفت الأمكنة.
وحينما توجّه الفعل نحو الذّات، لم تصمت الشّخصيّات ولم تستسلم للواقع، بل راحت تتفاعل مع المجتمع، ما يعني أنّ هناك وجهًا آخر للمقاومة يظهر عبر السّلاح المعنويّ الأشد فتكًا وفعاليّة، فتظهر المقاومة المباشرة وغير المباشرة. حاولت الكاتبة إظهار وعي الشّخصيّات وقدرتها على التّعامل مع ما تواجهه من مواقف، ما يكشف الوعي الفرديّ لدى تلك الشخصيات. كما حاولت الكاتبة الغوص في عوالم الشّخصيّات الدّاخليّة النّفسيّة، فعبّرت عن تلك الحالة تصريحًا وتلميحًا. والكاتبة تغوص في الحدث، فتمنحه طاقات إيحائية، ما يعمّق جماليّة اللّغة السّرديّة ويجعلها أكثر تأثيرًا وجذبًا للقارئ. وإنّ الحواريّة التّفاعليّة داخل النّصوص جعل تلك النّصوص تتلاقى في ساحة واحدة، ما حقّق تنوّعًا زمنيًّا وانسجامًا دلاليًّا. كما أسهمت تلك الحواريّة في كسر حدّة تسلسل السّرد، ما يعطي النّص تنوّعًا لغويًّا.
ختامًا، أصبح فعل المقاومة عملًا سلوكيًّا من سلوكيات الحياة اليومية للأفراد في رواية "وصفات سرية"، وذلك من خلال وعي الذّات والآخر. وهذا الوعي هو المحرّك للمجتمع القادر على إعادة تشكيل ذاته. وإذا كان المجتمع واعيًا هويته وحريته، يصبح من السّهل عليه معرفة الطّريقة المناسبة للمقاومة.
* د. داوود مهنّا. شاعر وناقد أدبي
جريدة الأيام الالكترونية. الصفحة الثقافية
- علامات:
- ثقافة