28.5c درجة الحرارة في بيروت
أهم الأخبار:
image

عبد المجيد زراقط. دون كيشوت..."في طاحونة الذئاب" /جريدة الأيام الإلكترونية

عبد المجيد زراقط. دون كيشوت..."في طاحونة الذئاب" /جريدة الأيام الإلكترونية الدكتور حسني عبد الرضا
يتحفنا الدكتور عبد المجيد زراقط، على عادته، بين الفينة والفينة، بمولود جديد يضاف إلى إبداعاته الأدبية، حيث صدر له في الآونة الأخيرة كتابين جديدين، أولهما رواية بعنوان " في طاحونة الذئاب"، والثاني مجموعة قصص قصيرة بعنوان " جذور فوق التراب وقصص أخرى". صدر الاول في طبعته الاولى سنة 2020م، عن مركز ليفانت للدراسات الثقافية والنشر، الاسكندرية، مصر. وصدر الثاني سنة 2021، وهو يجمع مقدّمة يقول فيها الكاتب:" هذه قصص أناس عاركوا زجاج الأيّام، فتكسّر بين أيديهم، وغشيَهم الظلام، فعاش كثير منهم ليل الأيّام، ولم يحيوا نهاراتها...وصنع بعضهم نهاراته، على الرغم من الصعوبات... في هذه القصص التي كُتبت، في أوقات متباعدة، صورمن الحياة في أيام مرّت، والأيّام لا تكفّ عن المرور، فعسى أن ينجلي الليل..."، إضافة إلى عشرين قصة قصيرة وست حكايات شرْحها يطول.
يهدي الكاتب روايته " إلى الذين يقوون على الذئاب..." ثمّ يوضّح في المقدّمة:" هذه ليست سيرة ذاتيّة. هذه رواية"، على عادة الروائيين رفعًا للمسؤولية. وظنّا منه أن المتلقّي لم يصدّق هذا الكلام يعود ليؤكّد:" وأكرّر القول، هذه ليست سيرة ذاتيّة، وإنما هي رواية، بناؤها، بمختلف مكوّناته: الأحداث والشخصيات...متخيّل...فأقول لكل من يرى أن ما يقرأه سيرة أوتسجيلا للوقائع: لا، ليس الأمر كما تعتقد". كأنّي بالروائي ليس مقتنعًا بما يقول، على الرغم من أنّه، كما تقول فيروز: "سمّى الجيرة وسمّى الحي..." فهو يصرّ أنها ليست سيرة ذاتية إنما هي من نسج الخيال. تتكوّن رواية " في طاحونة الذئاب" من ثلاثين مقطعًا سرديًّا، يفصل بين معظمها صفحة بيضاء، مختلفة الطول، بين ثلاث صفحات وثماني، مرقّمة ترقيمًا عدديّا من دون عناوين...تروي حكاية جيل بكامله من أبناء جبل عامل "جيل تكالبت عليه الهموم...جيل فقْد الوطن، والفقْد في الوطن..."، جيل الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم...جيل الكاتب...الذي كانت وما تزال تتتالى وتتناوبه الأسئلة: " ما العمل لنحقق التحرير والنهوض والتنمية...؟!". حمل الهمّ الشخصي بمحاربة الفقر والخروج من الضائقة المادية التي وجد نفسه مولودا فيها والهمّ الاجتماعي الذي وجده حوله من جهل ومرض وتخلّف واستبداد من قبَل طغمة حاكمة: " تستبد، وتجعلنا نعيش محرومين من الماء والكهرباء والمدارس والرعاية... وهذه العصابات الغاصبة التي نكبتنا منذ سنين...ألا تستبد؟!". يتنكّب الحكي راوٍ عليم، لا نعرف له اسم، إنما يُعرف بلقبه (الاستاذ)، يتحدّث بضمير المتكلّم. يعرف كل شاردة وواردة عن شخصيات الرواية، حتى ما في ذات صدورهم. وُلد وترعرع في قرية نائية على الحدود اللبنانية الفلسطينية من قرى جبل عامل، لأب يدير دكانه الصغير في القرية ومزارع يهتم بأرضه، فلاحة وزراعة، على غرار معظم أهالي تلك المنطقة الذين كانوا وما يزالون يعاركون الصخر كي يعيشوا بكرامة...وأم فاضلة أنجبت العديد من الأولاد لتحفظ آخرتها مع زوجها.
ينجح الراوي في الشهادة المتوسطة ويلتحق بدار المعلمين والمعلمات ـ فرع صيدا، بعد نجاحه في مباراة الدخول، على عادة معظم أبناء جيله الذين لم يجدوا أمامهم سوى أحد طريقين للهروب من الفقر: إما الوظيفة، خصوصًا التعليم، أو الهجرة. وكانت دور المعلمين أسهلهما، فهي ليست بحاجة إلى واسطة. انجح في المباراة والتحق واقبض منحة شهرية بقيمة مائة ليرة...ثم تلتحق بوزارة التربية بعد ثلاث سنوات من الدراسة والنجاح. هكذا كان حال معظم شباب جبل عامل وغيرهم من أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
يتخرّج "الاستاذ" بعد دراسة ثلاث سنوات بنجاح وينتظر التحاقه بمدرسة قريته التي تحتاجه لفتح صف الشهادة الابتدائية...لكن الذئاب الصغيرة في القرية ( المدير وزلمة الزعيم) تنجح، بدعم من الزعيم الاقطاعي، بالحاقه إلى أبعد مدرسة حدودية، تأديبًا له لوقوفه في وجه الذئاب، إجتماعيًّا وسياسيًّا، ودعمه للفدائيين في تلك الفترة.
يخوض الراوي تجربتي حب، يبهّر بهما الروائي روايته كي يرطّب جو السرد...دون الوصول إلى خاتمة سعيدة، لأن الذئاب تتكالب عليه فتمنعه من قطف ثمار هاتين التجربتين.
تتضمّن الرواية حكايات عدّة على لسان الراوي أحيانًا وعلى ألسنة أصحابها أحيانًا أخرى، بأسلوب راقٍ سهل ممتع بعيد عن الملل والتكرار، بالعاميّة "الفصيحة" التي يفهمها كل من يقرأها، مليء بالأمثال وأبيات الشعر الشعبية.
تتكالب الذئاب على الراوي، الذي يمثّل أنموذجًا لجيل بأكمله، فتمنعه من تحقيق أمانيه، إن على صعيد الحب حيث تفشل علاقته بأمينة ونهى، أوعلى صعيد القرية حيث تمنعه من الالتحاق بمدرستها لتحسين أوضاعها وخدمة تلامذتها وتوعيتهم، أو على صعيد الوطن حيث تمنعه من تحقيق أي تطوّر أو " أعدّ ما يقتضيه نشاطنا من أبحاث، علّنا نبلور مشروعنا الوطني، في هذا الوطن الجميل، الذي يستعصي على التغيير"، أو على صعيد الأمة التي تغرق في همومها حيث يتساءل:" هل يمكن أن تنتصر أنظمة مستبدّة تعطّل شعوبها، وتضع قواها الحيّة في السجون؟!"...
الدكتور حسني عبد الرضا
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية